عبد الحميد شرف سهم مرّ سريعاً ورحل سريعاً من سماء الوطن لكنه ترك أكثر من بصمة وأكثر من أثر في أكثر من موقع، تلك هي أقدار الكبار، تتولى المسؤولية باكراً وتعطي باكراً، لكنهم وهم في قمة العطاء يرحلون باكراً، عبد الحميد واحد من هؤلاء الكبار، الكل يتذكره والكل يترحم عليه والجميع يفتقده، لأن الوطن كثيراً ما يترحم على الكبار لأنه يفتقدهم.
ولد الشريف عبد الحميد عام 1939م، وهو ينحدر من الأسرة الهاشمية، فوالده الشريف شرف كان مع الملك الثائر حاكماً قبل ثورة العرب الكبرى عام 1916 على المدينة المنورة وبعد قيام الثورة انتقل إلى العراق مع الملك فيصل لأول وعندما قامت ثورة رشيد علي الكيلاني عام 1941، عيّن الشريف شرف وصياً على عرش العراق لكن سرعان ما نفته بريطانيا، ورحل الشريف عبد الحميد وأخوه فواز ووالدتهم العراق إلى بيروت وبعدها إلى عمان بطلب من الملك عبد الله الأول عليه كل الرحمات.
تعلم عبد الحميد في عمان وعندما اشتد عوده غادر إلى بيروت حيث درس في الجامعة الأمريكية عام 1956، واختار تخصص الفلسفة التي كانت الأقرب إلى ميوله واتبعها بدراسة الماجستير في نفس الجامعة ولأن الشريف عبد الحميد وحدوي قومي مناضل في سبيل العروبة وقضية العرب المركزية فلسطين، ولأن بيروت كانت في ذلك الوقت عاصمة النضال القومي، فقد أثر ذلك في فكر المرحوم السياسي وانعكس ذلك على نوعية الدراسة فكانت رسالته الجامعية تحمل عنوان القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة، وبعد ذلك عاد إلى عمان حيث الحضن القومي الدافئ، وهو لم يزل شاباً يافعاً متسلحاً بالعلم والفضيلة فالتحق بوزارة الخارجية مديراً لقسم الشؤون العربية الفلسطينية وهذا أكسبه مزيداً من الاطلاع على قضية العرب المركزية وطريقة التعامل والتعاطي الدولي معها، والآن دواة المرحوم وصفي التل ابن الأردن البار يعرف معدن الرجال فقد اختار الشريف عبد الحميد مديراً لدار الإذاعة الأردنية التي كانت بحق صوت الأردن النابض بالحيوية وهو لم يكمل الرابعة والعشرين من عمره، ومع ذلك فقد ترك الشريف العديد من البصمات التي لا تزال حتى الآن، فقد كان قادراً على التعاطي مع فن الإدارة والتجديد وكان يشجع على إبداء الرأي بكل صراحة وعمل على تجذير الهوية الأردنية والقومية في كل برامج الإذاعة وأجاد في كل محاوراته مع القادة والمفكرين وأصحاب الرأي الحر من أجل إيجاد أفضل السبل لجعل الأمة العربية قادرة على الاستمرار والعطاء، وأثناء خدمته مدير لدار الإذاعة وبطلب منه شخصياً قدمت السيدة فيروز إلى عمان وغنت رائعة سعيد عقل الشاعر اللبناني "أردن أرض العزم أغنية الظبا نبت السيوف وحد سيفك ما نبا"، بعد الإذاعة نقل إلى وزارة الخارجية مدير للمنظمات الدولية، وكان الحسين الباني يراقب أداء هذا الشاب الشبل الهاشمي المتحمس فاختاره للعمل في الديوان الملكي الهاشمي مساعداً لرئيس الديوان ليتعرف بطريقته الخاصة عن قرب على طبيعة الحياة السياسية للوطن، هذه الوظائف التي تقلدها المرحوم عبد الحميد وهو لا يزال في ريعان شبابه جعلت منه إنساناً يدرك حجم الأردن ووضعه في مجمل الأوضاع السائدة في ذلك الوقت وجعلته يتعرف على خصوصية المجتمع الأردني وطبيعة القرار السياسي عند صاحب القرار، وعمل في كل المواقع على خلق بيئة متوازنة بين الجميع جعلت منه شخصية وطنية محبوبة في كل علاقاته ولأنه كذلك، ولأن وصفي التل هذا الوطني العملاق الذي قدم روحه في سبيل الوطن والأمة، والذي يعتبر بحق مكتشف الرجال، فقد اختاره ضمن طاقم حكومته وزير إعلام عام 1965 وكان عمره ستاً وعشرين سنة، وعندما تسلم وزارة الإعلام كانت بحق نقطة تحول كبيرة فعمل جاهداً على إعادة هيكلة الإعلام المرئي والمسموع والمقروء ففي عهده كانت مدينة الحسين للشباب وقصر الثقافة ودائرة الثقافة والفنون ورئيسها حيدر محمود ومعهد الفنون ومجلة أفكار وفرقة الفنون الشعبية والمسرح الأردني وصدور قانون تنظيم الصحافة، فكانت الرأي وكانت الدستور منارتان للإبداع والفكر الحر، الوطني الملتزم.
بعد نكبة حزيران 1967، وفي تموز نقل المرحوم ليكون سفير الأردن في عاصمة القرار العالمي واشنطن وكانت مهمة صعبة لكن المرحوم كان يدرك حجمها فقد كان على درجة عالية من الدبلوماسية، وقد أجاد في طريقة عرض الأفكار لكل الجوانب المحيطة بالقضية الفلسطينية سواء في واشنطن أو في الأمم المتحدة، وكان له دور محوري ومهم في صياغة قرار مجلس الأمن 242، المتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي وبعد ذلك النجاح طلبه المرحوم الحسين الباني ليكون قريباً منه رئيساً للديوان الملكي الهاشمي فتعرف على مكونات الشعب الأردني واجتمعت لديه الخبرة والدراية والعلاقات السليمة العميقة مع الجميع، وكان للجميع... عمل ضمن خطة واضحة حاضر في أغلب المنتديات والنوادي شارحاً دور الوطن والمواطن من أجل الأمة فدعا للمشاركة الشعبية وللترشيد في كل شيء وكان يعلق الآمال على جيل الشباب، وقد خطف الأنظار فكان الحسين يراقب المشهد وكان عام 1979 عام القرار فاختاره الحسين رئيساً لحكومة وتألفت حكومة الشريف من أبناء بررة همهم الأول خدمة الوطن والمواطن، وأخذت حكومته من أول يوم على عاتقها جملة من القضايا أبرزها الدور المحوري للوطن وإعادة صياغة المرحلة بما يتناسب والواقع وتحقيق ما يصبو إليه الوطن، وقائد الوطن من خلال كتاب التكليف السامي وطلب الحسين رحمه الله إليه إطلاق قوى التجديد لبناء الوطن وهكذا سار المرحوم فاهتم بالشباب والتربية واعتبرهما أهم الركائز المرجوة للنهضة الشاملة التي تحتاج إلى مراجعة دورية شاملة ووضع الخطط الكفيلة لتنفيذ التطلعات والآمال واهتم بالعملية الاقتصادية ودعا إلى مشاركة الجميع في عملية الحكم وقد تبنى المرحوم منهجية جديدة تقوم على الصدق والحوار الهادف، واهتم بقطاع المرأة وكان يؤمن بدورها السياسي والثقافي والاجتماعي فكانت السيدة أنعام المفتي أول سيدة تتولى منصباً وزارياً في الأردن، وكان صاحب مبادرة ترشيد الاستهلاك التي بتنا الآن في أمس الحاجة لها، وعلى الصعيد العربي والدولي فقد كان يؤمن أن الأردن له دور كبير في كل القضايا ولابد أن يلعب هذا الدور، وبالرغم من قصر حكومته إلا أن لها العديد من البصمات والعديد من الخدمات إلى الآن، لكن في فجر الثالث من تموز 1980 ويا لتموز من عبد الحميد فقد رافقه حتى وفاته.
كان المرحوم على موعد مع القدر فقد فاضت روحه الطاهرة وفارق الحياة وهو في مقتبل العمر وريعان الشباب تاركاً أثراً خالداً من الأعمال والأقوال والأفعال، هكذا هم العظماء حياتهم قصيرة لكن حجم الأعمال والأفعال بحجم الدنيا، نحن في هذه الأيام نتذكر دولة المرحوم عبد الحميد شرف ابن الوطن البار الذي ما توانى يوماً عن الدفاع عنه بكل ما يملك وفي كل محفل وموقع، نتذكره ونتذكر كل أولئك الأطهار والأبرار الذين قدموا للوطن والأمة، فكان الوطن على موعد معهم صباح مساء يترحم عليهم يتذكرهم يبكيهم بحرقة، لكن نحن الأردنيين صابرون منذ أيام جعفر وعبد الله مروراً بالأطهار من بني هاشم الحسين الثائر وعبد الله المؤسس وطلال الدستوري الكبير والحسين الباني الذي جعل من هذا الوطن وطناً بحجم الدنيا وهزاع الذي كان دمه عربون حب ووفاء للوطن ووصفي الذي سالت قطرات دمه من أجل أن يبقى هذا الوطن على خارطة الدنيا عربي النزعة والهوية وحابس الذي تعرفه أسوار القدس مدافعاً والشريف شرف والقائمة تطول وتطول رحمهم الله جميعاً وفي يوم ذكرى وفاة الشريف عبد الحميد نعاهد الله أن نبقى أوفياء لكل ذرات تراب الوطن وعاش الوطن والقائد ورحم الله كل من أعطى الوطن
ا