المرحوم الدكتور محمد حجازي
أول طبيب أسنان في الأردن – معارض سياسي في سبيل الاستقلال
معتقل ومحكوم بالإعدام من الإنجليز والفرنسيين – لاجئ سياسي في المانيا
مقاتل في حرب فلسطين – نائب في مجلس الأمة – دبلوماسي
ممثلاً للأردن في تركيا و اسبانيا وبريطانيا والسعودية والمانيا
في خمسينيات القرن الماضي
تمثل هذه العناوين المختصرة سيرة أحد رجالات الأردن الذين سبقوا عصرهم وساهموا بإخلاص في بناء الأردن الحديث بصدق انتماءهم ووطنيتهم ونكران ذاتهم.
الدكتور محمد مصطفى القاسم حجازي من مواليد إربد عام 1902, وأحد أبناء عائلة الحجازات التي قطنت إربد منذ فترة طويلة وكان لأبناءها دور كبير في نهضة المدينة الاجتماعية والثقافية والسياسية, فمنذ بدايات القرن العشرين تبوأ أبناؤها المناصب الادارية الهامة, فقاسم حجازي كان عضواً أول في مجلس ادارة قضاء عجلون عام 1890, وعواد حجازي في عام 1895, وترأس مصطفى القاسم رئاسة بلدية إربد منذ بدايات القرن العشرين ولحوالي ثلاثين سنة متتالية ومحمد العواد عام 1933, وتولى سامح حجازي رئاسة بلدية عمان ورئاسة بلدية إربد لعدد من الدورات في ثلاثينيات وخمسينيات القرن الماضي, كما ترأس أول تمثيل دبلوماسي خارج الأردن كقنصل في العراق عام 1941, بينما انتخب محمد العواد وموسى العواد في أكثر من مجلس تشريعي, بالإضافة إلى مشاركة أبناء العائلة في جميع المؤتمرات الوطنية التي عقدت في العشرينات والثلاثينات والتي تناولت الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة خلال تلك الفترة وطالبت بعدة مطالب وطنية هدفها الاستقلال ورفض الاحتلال البريطاني وقرارات تقسيم فلسطين, ولابد من الإشارة إلى دور العائلة في احتضان الأحرار السوريين زعماء حزب الاستقلال الذين لجأوا إلى شمال الأردن بعد معركة ميسلون عام 1920, وكما كان دور باقي العائلات في إربد وعشائر منطقة الكفارات الذين أكرموا وفادتهم وشاركوهم في نضالهم ضد الفرنسيين ومن هؤلاء الزعماء الشهيد احمد مريود وأدهم خنجر والشاعر خير الدين الزركلي وكامل العاص وأديب الصفدي وعادل العظمة وجميل شاكر والأمير محمود الفاعور وعثمان قاسم الذي توطدت علاقته بعائلة حجازي من خلال زواج سامح حجازي والدكتور محمد حجازي من شقيقتيه, وكان عثمان قاسم رفيق النضال للشهيد احمد مريود ودفن بجانبه في دمشق عام 1947 وقد بقي في الأردن حتى عام 1924 عندما أخرجته الحكومة مع رفاقه من زعماء حزب الاستقلال خارج البلاد بتحريض من الفرنسيين بعد اشتداد مقاومتهم وعملياتهم العسكرية ضد الاحتلال الفرنسي ومنهم الأمير عادل ارسلان والشهيد أحمد مريود والقائد فؤاد سليم.
درس الدكتور حجازي الابتدائية والاعدادية في مدارس إربد والثانوية في مدرسة عنبر في دمشق والتي كانت مركزاً تعليمياً رائداً في بلاد الشام وكان لها الأثر الأكبر في نشر النهضة العلمية والثقافية والوعي الوطني القومي عند رجالات سوريا والأردن إبان الحكم العثماني والاستعمار الفرنسي, وتخرج منها عدد كبير من رجالات سورية كشكري القوتلي و وجيه السمان وبدوي الجبل وشكري فيصل ونسيب البكرى وكان زملاؤه في المدرسة من الأردنيين خلف التل والدكتور صبحي ابو غنيمة وعرار وسامح حجازي وآخرين كان لهم جميعاً دوراً أساسياً في استقلال الأردن ونهضته العلمية ويمكن القول بأن الوعي القومي عند هؤلاء الرواد كان قد بدأ خلال دراستهم في هذه المدرسة إبان الحكم الفيصلي ومناهضة الأحرار السوريين للاستعمار الفرنسي, ففي الوقت الذي شاهدوا وحشية الفرنسيين تعرفوا عن قرب على نضال الثوار وتضحياتهم في سبيل الاستقلال, فكانت هذه المدرسة بالنسبة لهم مدرسة علم ومدرسة وعي قومي.
بعد تخرجه من مدرسة عنبر غادر الدكتور حجازي ورفيق دربه الدكتور محمد صبحي ابو غنيمة إلى المانيا فدرس الأول طب الأسنان والثاني الطب في جامعة برلين وتخرجا سوياً عام 1928, ومن المرجح أنه بعد تخرجه وافتتاحه لعيادته في إربد ذلك العام أنه أول طبيب أسنان خريج جامعة في الأردن.
في نفس العام انتقل بعيادته إلى عمان إلاّ أن انشغاله بالعمل السياسي لم يمكنه من متابعة مزاولة مهنة طب الأسنان لإنضمامه إلى صفوف المعارضة الساعية إلى استقلال الأردن فكان من أبرز زعماءها مما تسبب في سجنه وملاحقته لسنوات طويلة من قبل الانتداب البريطاني فلجأ عام 1937 إلى دمشق حيث قاد المعارضة من هناك مع الدكتور محمد صبحي ابو غنيمة وكان الاثنان من أشد المعارضين وأصلبهم لدرجة أن الأمير عبدالله بعث برسالة إلى مندوبه عمر الطيبي في دمشق في 29/4/1939 يقول فيها : "لامانع يمنع رجوعهم (المعارضون) ...... ماعدا اثنين معروفين وهما الطبيب وطبيب الأسنان" (يقصد الدكتور ابو غنيمة والدكتور حجازي) [الوثائق الهاشمية وثيقة رقم (44 ب) – (9-108)]
اشتدت ملاحقة البريطانيين والفرنسيين للدكتور محمد حجازي في دمشق حتى تم اعتقاله أوائل 1941 من قبل الانتداب الفرنسي وبقي معتقلاً في سجن تدمر حتى قامت طائرة المانية بتحريره وآخرون من رفاقه من السجن ولكنه ظل ملاحقاً من القوات الفرنسية مما اضطره إلى اللجوء إلى المانيا في آب 1941 مع عدد من رجالات العرب معارضي البريطانيين والفرنسيين ومنهم الحاج أمين الحسيني ورشيد عالي الكيلاني والدكتور محمد صبحي ابو غنيمة وفوزي القاوفجي وأمضى فترة الحرب العالمية في المانيا وانقطعت أخباره حتى بداية عام 1947 حيث يذكر شقيقه خالد حجازي في مذكراته المنشورة في جريدة الرأي (20 شباط 2008) "بأن برقية وردت من دمشق تفيد أن أخيه سيصل بيروت في 19/3/1947 وفي صباح 21/3/1947 استقبلناه في ميناء بيروت حيث هبط من الباخرة وقد القيناه في صحة متأخرة لما قاساه من ويلات الحرب لسنوات طويلة".
وروى الدكتور حجازي لأصدقائه قصة هروبه وعودته إلى الوطن بعد انتصار الحلفاء في الحرب ومطاردتهم له فذكر بأن طائرة حربية المانية نقلته وعدداً آخر من رفاقه إلى سويسرا التي كانت على الحياد في الحرب غير أن السلطات السويسرية قامت بتسليمهم إلى وحدة من الجيش الفرنسي الذي أبقاهم في معسكر للاعتقال ثم تم نقلهم إلى باريس حيث تم اعتقالهم لفترة من الزمن في أحد السجون الفرنسية وبجهود القائم بأعمال المفوضية السورية شاكر العاص وافقت الحكومة الفرنسية على وضعهم في أحد المنازل قيد الإقامة الجبرية لحين البَت في مصيرهم, إلى أن تمكن العاص من الحصول على موافقة الحكومة الفرنسية لتسفيرهم بجوازات سفر سورية على طائرة البريد السياسي إلى القاهرة وهناك بقي بعضهم وانتقل هو بالباخرة إلى بيروت.
وبعد أيام من وصوله بيروت دعاه الملك عبدالله للعودة إلى الوطن والمشاركة في بناءه بعد استقلاله معتبراً أن معارضته السابقة ولجوءه إلى المانيا كانت اجتهاداً وطنياً يهدف إلى استقلال الأردن.
ولم يستقر به المقام طويلاً في عيادته التي أعاد افتتاحها حتى بدأت حرب فلسطين فانخرط فيها مقاتلاً في جيش الانقاذ وخاض مع المجاهدين معارك عديدة في مرج بني عامر والعفولة والخضيرة والشجرة وزرعين والطيرة وصندلة وبيار عدس وقاقون.
وبعد كارثة فلسطين عاد لمزاولة طب الأسنان في عيادة افتتحها في شارع الملك فيصل الأول وفي عام 1950 خاض أول انتخابات نيابية بعد وحدة الضفتين عن قضاء إربد وفاز بنسبة أصوات لم تشهدها انتخابات المدينة حتى يومنا هذا مع صديقه في المعارضة شفيق ارشيدات, ولم تدم مدة المجلس طويلاً فقد تم حلّه عام 1950 بعد معارضته الشديدة للحكومة, عمل بعدها في وزارة الخارجية خلال الفترة ما بين 1951- 1958, ممثلاً للأردن في تركيا وبريطانيا واسبانيا والسعودية والمانيا حتى استقال إثر خلاف مع رئيس الحكومة عام 1951.
وعاد إلى مسقط رأسه منهكاً مما عاناه من الغربة والمعتقلات وويلات الحروب حتى توفاه الله في 9/9/1959, فكرمته مدينة إربد في إطلاق اسمه على أحد شوارعها وكذلك أمانة العاصمة.حصل المرحوم الدكتور محمد حجازي على عدد من الأوسمة خلال عمله في وزارة الخارجية من الدول التي عمل بها وقد كان يتقن خمس لغات اجنبية وقد بلغت تركته لابنه وبناته الثلاث مائتي دينار دَيناً للحكومة كسلفة راتب لم يتمكن من تسديدها قبل وفاته, فأصدر مجلس الوزراء في حينه قراراً بإعفائه من سداد الدين للحكومة نظراً " للخدمات الجليلة التي قدمها للوطن". كما أقامت مدينة إربد حفل تأبين له شارك به عدد كبير من رجالات الأردن وسوريا ولبنان وفلسطين والقيت فيه خُطباً وقصائد شعرية تُمجّد سيرته النضالية منها قصيدة رفيق دربه الدكتور محمد صبحي ابو غنيمه :
"فـي سبيـل الأوطـان مـت شهيـداً زغـردي للشهيـد يـا أوطانــي"
وقصيدة الشاعر أحمد الشرع :
"لهفـي عليـك أبا طـلال – لهفـي علـى خيـر الرجـال – رمـز المحبـة والنضـال"
رحمه الله وجميع رجالات الأردن المخلصين الذين ساهموا في بناء الأردن الحديث.