فراس العجلوني ...
حين تغيم سماؤنا بلا مطر ، وحين يخضّر زيتوننا بلا زهر بلا ثمر، وحين تصير وقائعنا ومفاخرنا ، أغان ٍ وحفلات سمر، نسمع هدير طائرة الشهيد ، قادمة ًمن رحم الماضي ... موجة دفءٍ كبزوغ الفجر من شرقيِّ المفرق ، نراك أيها الجاثم في الكتب المنسيَّة . نقطة ً بيضاء متلألئة ، كأنها رسولة ُ السماء . حين تتكاثر بُغاث الطير بأظافرها اللبنيّة ، نذكر نسرنا الكاسر، بجناحيه وصلابة مخلبيه ، نذكر النسر القاتل ، بالتماع مقلتيه ، حين نرى حليقي الرؤوس ، بأطواقهم ، وأساور معاصمهم ،ورطنهم ، ووطنيتهم .
حين طال انتظارنا على ظهر (العريشة) ، وحين عافت أيدينا حمل مذياع ٍ عجوزٍ ، بصوته المتهدج ، نبحث فيه عن صوت ٍ ناجزٍ، بين اللّغط والضجيج ، تطلع علينا ذكراك ، محمولا بالفولاذ الطائر ، تركب موج الأفق الساكن (قاعدة المفرق ) ، حين تصطك النواجذ من الهدير القادم ، وحين يزفر الجحيم من أفواه المدافع ، ويتدافع الموت من زند رشاش .... نركض وراء شبح راعش بالذكرى .
في هذا اليوم من كل عام ، أسقط حزنا أمام حاسوبي ، كما جدي سقط . قبل ما ينوف عن الأربعين عام فوق (العريشة) ، وبيده مذياعه المنهك .... سقط جدّي ، حين سمع بأن الريح ، خانت قوادم النسر الجريح . سقط حين اندفـق الحزن دون استئذان ، ليُغرق باحة الدار الطينية .
أربعون عاما... مدى ذاكرتي ، لكن حدود حبي للوطن أكثر وأكثر ، لكن سقطة النسر، لا زالت تبعث الخوف في نفسي ، أمدُّ ذاكرتي الغضّة ، لحكايات أبي ، وأقتحم (سواليف) جيرانه ، أرهف السمع لتلتقط أذني ، وشوشات الحزن ، وبرودة الزفرات الحرَّى ، تغيب الصورة ، وتنداح ملامحها ، تحجبها سُحب التبغ (الهيشيّ) التي تلفُّ الرجال المنهكين المستسلمين لقدرهم ، وصوت المذياع المتهدّج ، ينشجُ فوق السطح الطينيّ ....(سقط النسر) ... سقط فراس العجلونيّ .... حينها سقط المذياع المتعب ، وحينها أيضا ، غابت الشمس ، وغشّى الظلام بوابة الدار القديمة ، وكأني سمعت قفل البوابة الحديدي انكسر، وكأن ما في باحة الدار، إلا النحيب ، وكأن شجرة الخروب الحبلى بقرونها ، أسقطت أجنتها ، وكأن الماء انسلّ من أوصالها ، وما هي الا أيام ، حتى خلعت رداءها الأخضر، ولبست كفنها ، ترقبها فؤوس الحىّ ، وتنتظرها مواقد النساء ....
لا زلت أذكر كلمات جدتي ، تحدثني عن النسر( فراس ) ، وها أنا في مثل هذا اليوم ، لا أسمع صوتا أو الصدى . أنذكرك أيها النسر ، وليالي حوران تنضح ثلجا أسود ؟! وجبال البلقاء امتلأت نوارا موبوءا .
يا فراس ... لقد انطوى الجناح الذي كحل عين النجم ، ومزقت الريح ذوائب الشجر . يا فراس لقد صمت الشيوخ ، وارتجف الأحفاد ، وجفت الأثداء ، وانُتزعت تمائم الصبيان . وأُحرقت الأكف الزرقاء . وتعويذ من ( شر حاسد اذا حسد) .
سأصيح ...حتى وأن خُنقت حناجر الآباء ، سأصيح في لهف فاسمعوني ، سأصيح ... كخفق أجنحة النسور على التلال....سأصيح يا وطني ... فوق مقابر من ماتوا لأجلك . سأصيح.... فوق مقابر من رحلوا لأجل عيونك دون زاد من نداك . سأصيح .... بين مخافرنا ، وبين نقاط حدودنا ، بين الأوابد والجبال الخضر، من قلب عجلون الكئيب ، من ظلمة الغور الحزين ، سأصيح في قطع السحاب ، التي مرت بها أنفاس الشهيد .
قهر يخض دمي وأنا أصيح ، هل ُمزّقت أوراقنا ؟ وهل غُيّرت حروفنا؟! ... أرقامنا ؟! وهل تيبّست أقلامنا ؟! أصيح يا أحبتي ...هل يعرف الأبناء والخلان في أردننا (فراس) ؟؟!!
اعذروهم بالأمس صوتوا بـ (الشات) ، لواحد من الصبيان في برنامج الفرسان : ( ستار أكاديمي ) .
لروحك يا نسر الأردن الرحمة .... والسقيا لقبرك . والفاتحة لروحك ...