مسيرة الثقافة ودفء الرعاية
إن الرعاية التي حظيت بها الحركة الثقافية خلال السنوات العشر الأخيرة بلغت مبلغاً نعتز به ونجهد للبناء عليه وتحقيق المزيد منه للنهوض بالفعل الثقافي الجاد والملتزم بالقضايا الوطنية والقومية والإنسانية وبلوغ الحد الأقصى من أحلام الكاتب الأردني في الحياة الهانئة والعيش الكريم الذي يمكنه من الانخراط التام بالمشهد الثقافي الوطني والمشاركة الفاعلة في الحياة العامة لتحقيق الغد المأمول لأجيالنا القادمة ، وهو ما يرتب على كل منخرط في الفعل الثقافي العام عبئاً كبيراً تتطلبه ترجمة هذا الإهتمام وهذه الرعاية ليؤتيا أكلهما كما يراد لهما أن يؤتياه وأن ينعكس أثرهما بشكل إيجابي على أنماط السلوك والفكر والبحث والتنمية التي ستنهض بمختلف القطاعات الوطنية وفي مختلف الأقاليم على امتداد وطننا الصغير الذي يشكل جزءا من أمته العظيمة ويحمل مسؤولية خاصة في تبليغ رسالتها الخالدة حيث مثّل في البدايات بوابة الفتح الأولى ويمثل في النهاية أرض الحشد والرباط كما شاء الله له أن يكون .
لقد انعكس الدعم الملكي الذي تلقته الحركة الثقافية في الأردن على مجمل الإنجاز في مختلف حقول الإبداع وأفاد منها الكثير من المبدعين الأردنيين سواء في مشاريع التفرغ الإبداعي الذي يجب أن يتواصل السعي لتطويرها وتوسيع قاعدة المشاركة فيها ، أو بالنشر من خلال مطبوعات مكتبة الأسرة ومنشورات المدن الثقافية التي تعنى بالنتاج الوطني قبل سواه ، أو من خلال جوائز الدولة التقديرية والتشجيعية .
وتوّجت هذه الرعاية المشهودة بتأسيس صندوق خاص لدعم الثقافة ليشكل واحداً من الأمثلة الناصعة على هذه المسيرة الخيّرة والهادفة لبناء المشروع الثقافي بكامل تفاصيله وجزئياته وإعادة الأمور إلى نصابها لتكون الثقافة رافعة من روافع العمل العام الذي يراد به بناء الوطن – مجتمعاً ومؤسسات – على أسس تحترم الخصوصيات الثقافية في إطار التنوع والتلاقح والمثاقفة والحوار الحضاري المتكافيء.
وتمثل تجربة المدن الثقافية الأردنية خير الأمثلة على تلك الجهود الخيّرة ، والإنجازات اللافتة ، حيث أنها تمثل تجربة رياديّة على مستوى الوطن العربي بل والعالم أيضاً ، وكان لي شرف القيام بمهمة المنسق الثقافي العام حينما كانت مدينتنا " إربد " أول مدينة أردنية تحظى بهذا الدور الريادي لعام 2007 ، لذ فإنني سأقدم شهادة من قلب العمل الثقافي الذي عايشته وشاركت في صياغة مكوناته ، لتقويم تلك التجربة التي انسحبت مفرداتها على المدن الأردنية اللاحقة (السلط فالكرك ثم الزرقاء أخيراً(
ولا نذيع سراً إن نحن قلنا بأن كثيراً من العقبات قد واجهت التجربة الغضة الأولى وهي تحبو على أرض لم تكن على الوجه الذي نريد إعتباراً من الجانبين التشريعي والتنظيمي وانتهاء بالاجتهادات التي غالبا ما تذهب إلى غير الوجهة التي تريدها الثقافة الحقّة بعيدا عن المفاهيم السائدة ولغة المحاصصات وتقاسم الأدوار والمنافع ، أقول على الرغم من كل هذا وسواه ، فقد تمكنت المدينة بمختلف هيئاتها ولجانها من تحقيق إنجازات فاخرنا بها وتمنينا على شقيقات " إربد " من المدن الأردنية الأخرى أن تحذو حذوها وتضيف لتجربتها ما تستطيع من عوامل النجاح المتوخّى. وبالرغم من كلّ ما أتينا عليه في هذه العجالة ، فقد استيقظ الإربديون والأردنيون معهم على مدّ ثقافي جديد ومتوثّب اعتبارا من شهر تموزعام 2007 الذي أنجزت به أربع عشرة فعالية نوعية أسهمت في تسليط الضوء على مجريات الفعل الثقافي وأزالت بؤر الإحتقان والتوتر التي لازمته منذ الإعلان عن المدينة ، وانخرط المثقفون الإربديون والأردنيون ومؤسسات المجتمع المدني في عمل حقيقي تجلى في إنجاز ست وثلاثين فعالية في شهر آب وأربع وعشرين في أيلول وواحد وأربعين في تشرين الأول وعشرين فعالية في تشرين الثاني ومثلها في كانون الأول ، حيث بلغ مجموع الفعاليات المنجزة في الأشهر الستة الأخيرة مائة وخمسون فعالية تنوعت بين العروض المسرحية ، الفولوكلور والفنون الشعبية ، عروض الموسيقا والغناء ، معارض التراث والخط العربي والفن التشكيلي والصور الفوتوغرافية والكاريكاتير ، الندوات الفكرية والثقافية والتنموية وعروض الأفلام الهادفة والأمسيات القصصية والشعرية والنقدية ، وبلغ عدد المشاركين في الشقّ الإبداعي من هذه التظاهرات مائتان وأربعة عشر مشاركاً من بينهم ثلاثة وسبعون شاعراً وواحدا وثلاثين قاصّاً ومائة وعشرة باحث ومفكر وناقد ، هذا مع عدم احتساب المشاركين في مهرجان الشعرالعربي الذي نظمته رابطة الكتاب الأردنيين في إربد والذي شارك به ثلاثون شاعراً محلياً وعربياً .كما أنجزت الإحتفالية واحداً وعشرين مهرجاناً ومؤتمراً متخصصاً جاءت على النحو التالي :
ملتقى عمان الثقافي ، معرض صور الحياةاليابانية ، ملتقى عرار الشعري، معرض الجاليات،أيام عمان الثقافية ،معرض الكتاب الشامل ،معرض الرسم الكاريكاتيري ،مهرجان أرابيلا مدينة الثقافة عبر العصور ، مهرجان القراءة للجميع ، مؤتمر إربد ماضيا وحاضرا ، مؤتمر فن السرد في الأدب العربي ، الترجمة والثقافة العربية ، مؤتمر البيئة ، أعلام خلّدتهم أمتهم ، مهرجان إربد المسرحي ، مستقبل الزراعة والبيئة الآمنة صحة وسلامة الغذاء ،مهرجان الغناء الصوفي بمشاركات من ( الأردن ، سوريا ، مصر ، تونس والسودان ) ، مهرجان القمح والزيتون ، النزعة الصوفية في الأدب العربي ، مهرجان الشعر العربي.
أما على صعيد الإصدارات ، فقد عملت اللجنة المختصة بها على استقبال عشرات المخطوطات التي تقدم بها باحثون ومبدعون وتم تحويلها الى مقوّمين من ذوي الإختصاص ، وجرى تبنّي أربعين عنوانا تضمنت ديوان إربد الشعري ، معجم المبدعين الراحلين ، والأدباء المعاصرين ودراسات تاريخية وسوسيولوجية و تراثية و سياسية إضافة إلى نشر عدد من الأعمال الإبداعية في مجال الرواية و الشعرو القصة و الفن التشكيلي و الكتابة المسرحية.
و خصصت الإحتفالية جوائز خاصة لكل أشكال الإبداع الأدبي للأطفال و الكبار في حقول الشعر و القصة و الرواية و الدراسات و الترجمة و تم عرض الأعمال المشاركة في المسابقة على لجان تحكيم متخصصة تم تشكيلها و قدمت تقاريرها و نالها من استحقها من المتقدمين ، و قد بلغت المخصصات المالية التي رصدت لتنفيذ البرامج التي تقدمت بها لجنة الإصدارات مائة و خمسون ألف دينار أردني.
كما تم شراء عدد كبير من العناوين المهمة من معرض الكتاب الذي أقيم في رحاب مدينة الحسن الرياضية لتشكل هذه العناوين نواة لمكتبة وطنية يكون مقرها "مركز إربد الثقافي" الذي بوشر العمل ببنائه بكلفة تصل إلى خمسة ملايين دينار أردني فتحول الحلم الذي راود المثقفين في إربد إلى حقيقة سيتم التعامل معها خلال عام واحد تقريبا.
هذا و قد تم إقرار خمسة فعاليات سيُصار إلى إنجازها سنويا و هي مؤتمر إربد ماضيا و حاضرا بالتعاون مع المنتدى الثقافي ، مهرجان إربد المسرحي ، مهرجان القمح و الزيتون بالتعاون مع مؤسسة إعمار الحصن، مهرجان الغناء الصوفي بالتعاون مع رابطة الكتاب الأردنيين، جائزة إربد للإبداع الثقافي و هي ذات بعد وطني و عربي و تتناول لونا من ألوان الإبداع في كل عام ، و قد تشكلت لجنة من المختصين لوضع نظام خاص لهذه الجائزة السنوية التي تبلغ قيمتها عشرة آلاف دينار.
وقد نال الموسم المسرحي من المخصصات المالية مبلغ 25 ألف دينار والإصدارات 150 ألفاً ومثلها الفعاليات والنشاطات الفنية وهو ما يعادل 55 بالمائة من إجمالي مخصصات مدينة الثقافة الأردنية.
وعلى الرغم من عدم الرضى الذي واكب إنجاز النّصبَ التذكاري للثقافة على أحد مداخل المدينة إلا أنه يمثل بُعداً سعت إليه الإحتفالية ، ونأمل أن يُعالج موضوعُه الفنيّ ، ليكون معبّراً تمام التعبير عن الرسالة التي تحملها الثقافة الوطنية وأن يكون صرحا ثقافيا حقيقيا على مدخل المدينة.
كما تم إنجاز فيلم وثائقي عن تاريخ المدينة وما حولها ودورها في الحياة الثقافية والإجتماعية والسياسية والتنموية على مرّ العصور مثلما أنجزت أفلام وثائقية حول بعض مبدعيها المعاصرين بعنوان " سيرة مبدع " من إخراج المخرج فيصل الزعبي ، لتشكل مكتبة مرئية تضاف إلى رصيد عمان " عاصمة الثقافة العربية لعام (2002) وما سيتم إنجازه في المدن الثقافية اللاحقة إن هي سارت على هذا النسق وهو ما نتمنّاه بكامل ثقتنا بها ومعرفتنا بالمثقفين الحريصين دوماً على إنجاح التجربة.
ورصدت اللجنة مبالغ مالية لتطوير" بيت عرار " شاعر الأردن ، والمساهمة في ترميم بعض البيوت التراثية بالتعاون مع بلدية إربد الكبرى تمهيدا لتحويلها إلى فضاءات ثقافية تسهم في ديمومة إشعاع الفعل الثقافي وترسيخ أثره في الحياة العامة .
وبعد،
هذا غيض من فيض الدعم والمساندة التي حظيت بها الحركة الثقافية خلال العشرية الماضية وهو ما يشي بإمكانات كبيرة لتعظيم المنجز الثقافي والبناء على ما بوشر ببنائه لاستكمال المسيرة المظفرة على الأصعدة الاقتصادية والسياسية والمجتمعية وأخيراً البعد الثقافي الذي يعتبر تتويجاً لهذه الجهود والاهتمامات التي أولتها المرحلة عنايتها الخاصة .