مقدمة ســورة القيامـة
(حقائق تهز القلب )
هذه السورة الصغيرة تحشد على القلب البشري من الحقائق
والمؤثرات والصور والمشاهد , والإيقاعات واللمسات ,
ما لا قبل له بمواجهته ولا التفلت منه .
تحشدها بقوة , في أسلوب خاص , يجعل لها طابعا قرآنيا مميزا ,
سواء في أسلوب الأداء التعبيري , أو أسلوب الأداء الموسيقي ,
حيث يجتمع هذا وذاك على إيقاع تأثير شعوري قوي ,
تصعب مواجهته ويصعب التفلت منه أيضا !
.
إنها تبدأ في الآيتين الأوليين منها بإيقاع عن القيامة , وإيقاع عن النفس:
( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)
ثم يستطرد الحديث فيها متعلقا بالنفس ومتعلقا بالقيامة , من المطلع إلى الختام ,
تزاوج بين النفس وبين القيامة حتى تنتهي .
وكأن هذا المطلع إشارة إلى موضوع السورة .
أو كأنه اللازمة الإيقاعية التي ترتد إليها كل إيقاعات السورة ,
بطريقة دقيقة جميلة . .
من تلك الحقائق الكبيرة التي تحشدها هذه السورة في مواجهة القلب البشري ,
وتضرب بها عليه حصارا لا مهرب منه :
حقيقة الموت القاسية الرهيبة التي تواجه كل حي , فلا يملك لها ردا ,
ولا يملك لها أحد ممن حوله دفعا .
وهي تتكرر في كل لحظة , ويواجهها الكبار والصغار , والأغنياء والفقراء ,
والأقوياء والضعاف , ويقف الجميع منها موقفا واحدا ، لا حيلة ، ولا وسيلة ،
ولا قوة ، ولا شفاعة ، ولا دفع ، ولا تأجيل . .!
مما يوحي بأنها قادمة من جهة عليا لا يملك البشر معها شيئا .
ولا مفر من الاستسلام لها , والاستسلام لإرادة تلك الجهة العليا . .
.
وهذا هو الإيقاع الذي تمس به السورة القلوب وهي تقول:
(كلا ! إذا بلغت التراقي , وقيل:من راق ? وظن أنه الفراق .
والتفت الساق بالساق . . إلى ربك يومئذ المساق). .
ومن تلك الحقائق الكبيرة التي تعرضها السورة :
حقيقة النشأة الأولى , ودلالتها على صدق الخبر بالنشأة الأخرى ,
وعلى أن هناك تدبيرا في خلق هذا الإنسان وتقديرا . .
وهي حقيقة يكشف الله للناس عن دقة أدوارها وتتابعها في صنعة مبدعة ,
لا يقدر عليها إلى الله , ولا يدعيها أحد ممن يكذبون بالآخرة ويتمارون فيها .
فهي قاطعة في أن هناك إلها واحدا يدبر هذا الأمر ويقدره ;
كما أنها بينة لا ترد على يسر النشأة الآخرة , وإيحاء قوي بضرورة النشأة الأخرى
, تمشيا مع التقدير والتدبير الذي لا يترك هذا الإنسان سدى ,
ولا يدع حياته وعمله بلا وزن ولا حساب . .
وهذا هو الإيقاع الذي تمس السورة به القلوب وهي تقول في أولها:
(أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه ?)
ثم تقول في آخرها:
( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ? ألم يك نطفة من مني يمنى ?
ثم كان علقة فخلق فسوى ? فجعل منه الزوجين:الذكر والأنثى ?
أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ?). .
.
ومن المشاهد المؤثرة التي تحشدها السورة ,وتواجه بها القلب البشري مواجهة قوية:
. . مشهد يوم القيامة وما يجري فيه من انقلابات كونية , ومن اضطرابات نفسية ,
ومن حيرة في مواجهة الأحداث الغالبة حيث يتجلى الهول في صميم الكون ,
وفي أغوار النفس وهي تروغ من هنا ومن هناك كالفأر في المصيدة !!
وذلك ردا على تساؤل الإنسان عن يوم القيامة في شك واستبعاد ليومها المغيب ،
واستهانة بها ولجاج في الفجور .
فيجيء الرد في إيقاعات سريعة , ومشاهد سريعة , وومضات سريعة :
(بل يريد الإنسان ليفجر أمامه . يسأل: أيان يوم القيامة ?
فإذا برق البصر , وخسف القمر , وجمع الشمس والقمر ,
يقول الإنسان يومئذ:أين المفر ?
كلا ! لا وزر , إلى ربك يومئذ المستقر ,
ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر . بل الإنسان على نفسه بصيرة ,
ولو ألقى معاذيره !). .
.
ومن هذه المشاهد مشهد المؤمنين المطمئنين إلى ربهم ,
المتطلعين إلى وجهه الكريم في ذلك الهول .
ومشهد الآخرين المقطوعي الصلة بالله , وبالرجاء فيه ،
المتوقعين عاقبة ما أسلفوا من كفر ومعصية وتكذيب .
وهو مشهد يعرض فيه قوة وحيوية كأنه حاضر لحظة قراءة القرآن .
وهو يعرض ردا على حب الناس للعاجلة , وإهمالهم للآخرة .
.
وفي الآخرة يكون هذا الذي يكون :
(كلا ! بل تحبون العاجلة , وتذرون الآخرة .!!
وجوه يومئذ ناضرة , إلى ربها ناظرة .
ووجوه يومئذ باسرة , تظن أن يفعل بها فاقرة !). .
وفي ثنايا السورة وحقائقها تلك ومشاهدها :
تعترض أربع آيات تحتوي توجيها خاصا
للرسول صلى الله عليه وسلم ، وتعليما له في شأن تلقي هذا القرآن .
ويبدو أن هذا التعليم جاء بمناسبة حاضرة في السورة ذاتها .
.
إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف أن ينسى شيئا مما يوحى إليه ,
فكان حرصه على التحرز من النسيان يدفعه إلى استذكار الوحي فقرة فقرة
في أثناء تلقيه ; وتحريك لسانه به ليستوثق من حفظه . فجاء هذا التعليم :
( لا تحرك به لسانك لتعجل به , إن علينا جمعه وقرآنه ,
فإذا قرأناه , فاتبع قرآنه , ثم إن علينا بيانه). .
.
جاءه هذا التعليم ليطمئنه إلى أن أمر هذا الوحي , وحفظ هذا القرآن , وجمعه ,
وبيان مقاصده . . كل أولئك موكول إلى صاحبه . ودوره هو , هو التلقي والبلاغ
. فليطمئن بالا , وليتلق الوحي كاملا , فيجده في صدره منقوشا ثابتا . .
وهكذا كان . . فأما هذا التعليم فقد ثبت في موضعه حيث نزل . .
أليس من قول الله ? وقول الله ثابت في أي غرض كان ? ولأي أمر أراد ?
وهذه كلمة من كلماته تثبت في صلب الكتاب شأنها شأن بقية الكتاب . .
ودلالة إثبات هذه الآيات في موضعها هذا من السورة ، دلالة عميقة موحية
على حقيقة لطيفة في شأن كل كلمات الله في أي إتجاه . .
وفي شأن هذا القرآن وتضمنه لكل كلمات الله التي أوحى بها إلى الرسول
صلى الله عليه وسلم لم يخرم منها حرف , ولم تند منها عبارة .
فهو الحق والصدق والتحرج والوقار ..!!
.
وهكذا يشعر القلب - وهو يواجه هذه السورة - :
أنه محاصر لا يهرب . مأخوذ بعمله لا يفلت . لا ملجأ له من الله ولا عاصم .
مقدرة نشأته وخطواته بعلم الله وتدبيره , في النشأة الأولى وفي النشأة الآخرة سواء
, بينما هو يلهو ويلعب ويغتر ويتبطر :
( فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى . ثم ذهب إلى أهله يتمطى). .
.
وفي مواجهة تلك الحشود من الحقائق والمؤثرات واللمسات والإيحاءات
يسمع التهديد الملفوف :
(أولى لك فأولى . ثم أولى لك فأولى )
فيكون له وقعه ومعناه !!
وهكذا تعالج السورة عناد هذا القلب وإعراضه وإصراره ولهوه .
وتشعره بالجد الصارم الحازم في هذا الشأن , شأن القيامة , وشأن النفس
وشأن الحياة المقدرة بحساب دقيق .
.
ثم شأن هذا القرآن الذي لا يخرم منه حرف , لأنه من كلام العظيم الجليل ,
الذي تتجاوب جنبات الوجود بكلماته , وتثبت في سجل الكون الثابت ,
وفي صلب هذا الكتاب الكريم .
وقد عرضنا نحن لحقائق السورة ومشاهدها فرادى لمجرد البيان .
وهي في نسق السورة شيء آخر . إذ أن تتابعها في السياق , والمزاوجة بينها
هنا وهناك , ولمسة القلب بجانب من الحقيقة مرة , ثم العودة إليه بالجانب الآخر
بعد فترة . . كل ذلك من خصائص الأسلوب القرآني في مخاطبة القلب البشري ;
مما لا يبلغ إليه أسلوب آخر , ولا طريقة أخرى . .
فلنأخذ في مواجهة السورة كما هي في سياقها القرآني الخاص:
........
...... ويشرع رحمه الله في السورة آية آية بكلام مبهر وعجيب .....