مقدمة ســورة الحجـرات
( عالم مثالي رفيع كريم _ حقيقة لا خيال _)
= = =
هذه السورة التي لا تتجاوز ثماني عشر آية ، سورة جليلة ضخمة ،
تتضمن حقائق كبيرة من حقائق العقيدة والشريعة ، ومن حقائق الوجود والإنسانية ،
حقائق تفتح للقلب وللعقل آفاقاً عالية ، وآماداً بعيدة ،
وتثير في النفس والذهن خواطر عميقة ومعاني كبيرة ،
وتشمل من مناهج التكوين والتنظيم ، وقواعد التربية والتهذيب ،
ومبادئ التشريع والتوجيه ، ما يتجاوز حجمها وعدد آياتها مئات المرات ..!!
وهي تبرز أمام النظر أمرين عظيمين للتدبر والتفكير ..
وأول ما يبرز للنظر عند مطالعة السورة ، هو :
أنها تكاد تستقل بوضع معالم كاملة لعالم رفيع كريم نظيف سليم ،
متضمنة القواعد والأصول والمبادئ والمناهج التي يقوم عليها هذا العالم ،
والتي تكفل قيامه أولاً ، وصيانته أخيراً ..
عالم يصدر عن الله ، ويتجه إلى الله ، ويليق أن ينتسب إلى الله ،
عالم نقي القلب ، نظيف المشاعر ، عف اللسان ، وقبل ذلك عق السريرة ..
عالم له أدب مع الله ، وأدب مع رسوله ، وأدب مع نفسه ، وأدب مع غيره ..
أدب في هواجس ضميره ، وفي حركات جوارحه ، ..
وفي الوقت ذاته له شرائعه المنظمة لأوضاعه ، وله نظمه التي تكفل صيانته .
وهي شرائع ونظم تقوم على ذلك الأدب , وتنبثق منه وتتسق معه ;
فيتوافى باطن هذا العالم وظاهره , وتتلاقى شرائعه ومشاعره ,
وتتوازن دوافعه وزواجره ; وتتناسق أحاسيسه وخطاه ,
وهو يتجه ويتحرك إلى الله . .
ومن ثم لا يوكّل قيام هذا العالم الرفيع الكريم النظيف السليم وصيانته ,
لمجرد أدب الضمير ونظافة الشعور ; ولا يوكل كذلك لمجرد التشريع والتنظيم .
بل يلتقي هذا بذلك في انسجام وتناسق .
كذلك لا يوكل لشعور الفرد وجهده , كما لا يترك لنظم الدولة وإجراءاتها .
بل يلتقي فيه الأفراد بالدولة , والدولة بالأفراد ;
وتتلاقى واجباتهما ونشاطهما في تعاون واتساق .
هو عالم له أدب مع الله , ومع رسول الله ..
.
يتمثل هذا الأدب في إدراك حدود العبد أمام الرب , والرسول الذي يبلغ عن الرب:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
فلا يسبق العبد المؤمن إلهه في أمر أو نهي ,
ولا يقترح عليه في قضاء أو حكم ; ولا يتجاوز ما يأمر به وما ينهى عنه ;
ولا يجعل لنفسه إرادة أو رأيا مع خالقه . .
تقوى منه وخشية , وحياء منه وأدبا . .
.
وله أدب خاص فيه خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقيره :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ
وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُون َ)
(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ
أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)
.
وهو عالم له منهجه في التثبت من الأقوال والأفعال , والاستيثاق من مصدرها ,
قبل الحكم عليها . يستند هذا المنهج إلى تقوى الله ,
وإلى الرجوع بالأمر إلى رسول الله , في غير ما تقدم بين يديه ,
ولا اقتراح لم يطلبه ولم يأمر به:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ
فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) ...
.
وهو عالم له نظمه وإجراءاته العملية في مواجهة ما يقع فيه من خلاف وفتن
وقلاقل واندفاعات , تخلخل كيانه لو تركت بغير علاج .
وهو يواجهها بإجراءات عملية منبثقة من قاعدة الأخوة بين المؤمنين ,
ومن حقيقة العدل والإصلاح , ومن تقوى الله والرجاء في رحمته ورضاه:
( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ
فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)
( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)
.
وهو عالم له آدابه النفسية في مشاعره تجاه بعضه البعض ;
وله آدابه السلوكية في معاملاته بعضه مع بعض:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ
وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ
وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)
.
وهو عالم نظيف المشاعر , مكفول الحرمات , مصون الغيبة والحضرة ,
لا يؤخذ فيه أحد بظنة , ولا تتبع فيه العورات , ولا يتعرض أمن الناس
وكرامتهم وحريتهم فيه لأدنى مساس :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)
.
وهو عالم له فكرته الكاملة عن وحدة الإنسانية المختلفة الأجناس المتعددة الشعوب ،
وله ميزانه الواحد الذي يقوم به الجميع ،
إنه ميزان الله المبرأ من شوائب الهوى والاضطراب .:
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)
.
والسورة بعد عرض هذه الحقائق الضخمة التي تكاد تستقل برسم معالم
ذلك العالم الرفيع الكريم النظيف السليم , تحدد معالم الإيمان ,
الذي باسمه دعي المؤمنون إلى إقامة ذلك العالم .
وباسمه هتف لهم ليلبوا دعوة الله الذي يدعوهم إلى تكاليفه بهذا الوصف الجميل ,
الحافز إلى التلبية والتسليم :
يا أيها الذين آمنوا . .
ذلك النداء الحبيب الذي يخجل من يدعى به من الله أن لا يجيب ;
والذي ييسر كل تكليف ويهون كل مشقة , ويشوق كل قلب فيسمع ويستجيب:
.
( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا
وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
وتكشف السورة في ختامها عن ضخامة الهبة الإلهية للبشر ..
هبة الإيمان التي يمن بها على من يشاء ، وفق ما يعلمه فيه من استحقاق :
( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ
بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
.
فأما الأمر الثاني الذي يبرز للنظر من خلال السورة ،
ومن مراجعة المناسبات الواقعية التي صاحبت نزول آياتها ، فهو :
هذا الجهد الضخم الثابت المطرد ، الذي تمثله توجيهات القرآن الكريم ،
والتربية النبوية الحكيمة ، لإنشاء وتربية تلك الجماعة المسلمة ،
التي تمثل ذلك العامل الرفيع الكريم النظيف السليم ،
الذي وجدت حقيقته يوماً على الأرض ،
فلم يعد منذ ذلك الحين فكرة مثالية ، ولا حلماً طائراً ، يعيش في الخيال .. !
هذه الجماعة المثالية التي تمثلت حقيقة واقعة في فترة من فترات التاريخ ،
لم تنبت فجأة ولو توجد مصادفة ، ولم تخلق بين يوم وليلة ..
كذلك لم تظهر نتيجة نفحة تغير طبائع الأشياء كلها في لحظة أو ومضة ..!
بل نمت نمواً طبيعياً بطيئاً كما تنمو الشجرة الباسقة العميقة الجذور ،
وأخذت الزمن اللازم لنموها ، واحتاجت إلى العناية الساهرة ،
والصبر الطويل ، والجهد البصير في التهذيب والتشذيب ،
والتوجيه والدفع ، والتقوية والتثبيت ..
.
واحتاجت إلى معاناة التجارب الواقعية المريرة والابتلاءات الشاقة المضنية ،
مع التوجيه لعبرة هذه التجارب والابتلاءات ..
وفي هذا كله كانت تتمثل الرعاية الإلهية لهذه الجماعة المختارة _ على علم _
لحمل هذه الأمانة الكبرى ، وتحقيق مشيئة الله بها في الأرض .
وذلك مع الفضائل الكامنة والاستعدادات المكنونة في ذلك الجيل ،
وفي الظروف والأحوال المهيأة له على السواء ..
وبهذا كله أشرقت تلك الومضة العجيبة في تاريخ البشرية ،
ووجدت هذه الحقيقة التي تتراءى من بعيد
وكأنها حلم مرفرف في قلب ، أو رؤيا مجنحة في خيال .!
.............
...... ثم يشرع رحمه الله في تناول الآيات آيةً آية :_