نوح القضاة .. المفتي والعالم الجليل
هزاع البراري - تميز العالم والفقيه الكبير نوح علي سلمان القضاة، بحضور عميق الجذور على ساحة العلوم الدينية المحلية والعربية، حيث عرف بمحبة الناس له، وتقديرهم الكبير لعلمه ومكانته، وثقتهم العالية في ما يصدره من فتاوى شرعية، مستندة على القواعد الشرعية، وتحقيق مصالح الناس في الدين والدنيا.
عمل طوال حياته من أجل المصلحة العامة، ولم يأل جهداً في سبيل تحصيل العلم والمعرفة من مصادرها الأساسية، وكان صاحب فكر مستنير، وعلم غزير وقلب منفتح، كما تميز بهدوء العلماء، وبتواضع الكبار، حيث أمضى حياته بالعمل وتحصيل العلم، وتكريس كل ذلك خدمة لوطنه وقيادته، وأمته العربية والإسلامية.
شهدت حياته المليئة بالعطاء والتميز، محطات عمل مختلفة، جعلت منه واحداً من رجالات الوطن، الذين عملوا كما هم الأردنيون دائماً بإخلاص وانتماء حقيقيين.
شكلت قرية عين جنا مسقط رأسه، نقطة مضيئة في حياته، فهي قرية كثيرة الينابيع وارفة الخضرة، تقع في محافظة عجلون، على جبلين متقابلين مطلين على قلعة عجلون، وهي مكان ملائم للهدوء والتأمل، وهما السمتان اللتان رافقتا نوح القضاة طوال عمره، فقد ولد في عام 1939، ونشأ في هذه البيئة القروية المبنية على الألفة والمحبة، والتعلق بالأرض.
كان والده شيخاً وفقيهاً شافعياً، أجازه في علومه ومعارفه الشرعية عدد من كبار علماء وفقهاء الدين في الشام، حيث عمل على تربية أبنائه، تربية إسلامية معمقة على مذهب الإمام الشافعي، وكان بذلك معلمهم الأول، وهكذا كان نصيب نوح القضاة، فقد تعلم على والده، ومن ثم التحق بالمدرسة النظامية.
وكان من بين الطلبة المتفوقين دراسياً في مختلف المواد، بعد ذلك أرسله والده إلى دمشق لإكمال دراسته الشرعية، فالتحق عام 1954 بالمدرسة الغراء، التي أسسها الشيخ علي الدقر، فقد أمضى فيها سبع سنوات، درس خلالها المرحلتين الابتدائية والثانوية، وهي مدرسة شرعية درس فيها الفقه والعقيدة، وكان من شيوخه: الشيخ عبد الكريم الرفاعي والشيخ أحمد البصروي والشيخ عبد الرزاق الحمصي والشيخ نايف العباس، وغيرهم من كبار علماء السنة، الذين أخذ منهم أيضاً الورد اليومي في الطريقة الشاذلية الصوفية.
واصل دراسته الجامعية، من خلال التحاقه بجامعة دمشق، وقد دخل كلية الشريعة، من أجل التعمق أكثر في العلوم الإسلامية، حيث تلقى الفقه الحنفي على يد عدد من علماء الأمة من أمثال الشيخ مصطفى الزرقا والدكتور وهبة الزحيلي وغيرهم، وبعد أربع سنوات تخرج القضاة في الجامعة حاصلاً على شهادة البكالوريوس في الشريعة عام 1965، وكانت فترة دراسة في دمشق، سواء في المدرسة أو الجامعة، فترة غنية بالمعارف المختلفة، ومكنته من بناء علاقات وثيقة مع الشيوخ والعلماء، وقد اكتسب الثقة بالنفس، والقدرة على الاعتماد على الذات من عمر مبكرة، هذه الصفة الأخيرة لازمته طوال سنوات عمره، وقد دأب خلال دراسته في دمشق، على حضور المجالس الدينية والحلقات العلمية، من أجل الاستزادة من بحر العلم الواسع.
عاد الشيخ نوح القضاة إلى الأردن، بعد دراسته في دمشق، وقد بادر بالانضمام إلى الجيش العربي القوات المسلحة الأردنية، مترجماً بذلك حبه وارتباطه بالأرض الأردنية، وإدراكه لأهمية الدور التنويري داخل تشكيلات القوات المسلحة، وبرز خلال سنوات خدمته الأولى بالوعظ والإرشاد، ومن ثم أخذ يظهر اسمه بتميز في مجال الإفتاء.
تدرج في رتبه العسكرية والعلمية، حتى أصبح عام 1972 في منصب الإفتاء للقوات المسلحة الأردنية، وكان خلال خدمته العسكرية في مجال الوعظ ومن ثم الإفتاء، قد واصل مشوار دراساته العليا، ففي عام 1977 سافر إلى جمهورية مصر العربية، والتحق بجامعة الأزهر، حيث درس أصول الدين وأصول الفقه، والفقه المقارن، وتابع حلقات ومحاضرات عن التصوف، وفي نهاية المطاف عمل على إنجاز أطروحته العلمية، التي كتبها تحت عنوان ( قضاء العبادات والنيابة فيها ) ونال عليها درجة الماجستير في الشريعة عام 1980.
لقد عمل خلال خدمته في القوات المسلحة، على إصدار مئات بل آلاف الفتاوى الشرعية، التي ترد على كثر من الأسئلة، وتسهل على الناس القيام بواجباتهم الدينية، وقد تم نشر هذه الفتاوى في المجلة الإسلامية للقوات المسلحة، وعمل خلال هذه الفترة على أن يكون لكل وحدة عسكرية، إمام ليؤم بالمصلين، ويلقي دروساً دينية، وقد تم توفير برامج تدريبية لإعدادهم على أكمل وجه، ليقوموا بدورهم بالدعوة والإرشاد على خير ما يجب، وعمل أيضاً على تأسيس كلية الأمير الحسن للدراسات الإسلامية، وكانت هذه خطوة واسعة، في سبيل تخريج كوادر مؤهلة على أسس علمية، لرفد تشكيلات الجيش بالمرشدين والوعاظ، وقد أحدثت هذه الكلية نقلة نوعية، في الأئمة والمرشدين والمدرسين من العسكريين.
تابع الشيخ نوح القضاة دراسته العليا، فقد التحق بجامعة محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، حيث بدأ التحضير للدكتوراه، التي تمكن من نيلها عام 1986، عن رسالته العلمية ( إبراء الذمة من حقوق العباد ) وقد استمر بعد حصوله على الدكتوراه، في خدمته العسكرية مفتياً للقوات المسلحة الأردنية، وتتميز فتواه بتحري القواعد الشرعية، وبالخبرة الكبيرة، وبالاعتدال والبعد عن التطرف، بما يحقق مصلحة الدين والدنيا، وقد أصدر في حياته عدداً من الكتب القيمة منها: محاضرات في الثقافة الإسلامية، المختصر المفيد في شرح جوهرة التوحيد، شرح المنهاج في الفقه الشافعي، كيف تخاطب الناس، لم تغب شمسنا بعد، صفات المجاهدين، مولد الهادي صلى الله عليه وسلم، ومذكرات في التوحيد.
بعد إحالة سماحة الشيخ مفتي القوات المسلحة على التقاعد بفترة، صدرت الإرادة الملكية بتعيينه سفيراً في إيران، عام 1996، وبذلك التحق بالسلك الدبلوماسي، وقد حقق نجاحاً لافتاً في عمله كسفير في طهران، وعمل على توثيق العلاقة بين البلدين، وقد تمتع الشيخ القضاة بمكانة طيبة في العالم الإسلامي، لذا عكس ذلك إيجابياً من خلال عمله في السلك الدبلوماسي، في فترة شهدت فيها المنطقة ولا زالت، أحداثاً ساخنة سياسية وعسكرية، وقد استمر في منصبه سفيراً للأردن في طهران حتى عام 2001، حيث عاد بعدها إلى الأردن. في عام 2004 سافر إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث عمل في الإفتاء، كما عين مستشاراً لوزير العدل والأوقاف والشؤون الإسلامية، في دولة الإمارات حتى العام 2007، فقد قرر العودة إلى وطنه الأردن، حيث صدر قرار تعيينه عام 2007، في منصب المفتي العام للمملكة الأردنية الهاشمية، وقد نهض بأعباء هذا المنصب بكل جدارة واقتدار، وسار كما هو دائماً على نهج الاعتدال وتقصي الأسس العلمية في عمله، فكان عمله محط التقدير والإعجاب من قبل الجميع، واستمر مفتياً عاماً للمملكة، حتى قام في شهر شباط عام 2010 بتقديم استقالته من هذا المنصب.
توفي سماحة الشيخ نوح علي سلمان القضاة، في التاسع عشر من شهر كانون الأول عام 2010، بعد صراع مرير مع المرض، وشكلت وفاته خسارة كبيرة للوطن، وشعر محبوه والناس بحجم الفقد والحزن، الذي حل عليهم برحيله، وقد شيع جثمانه إلى مثواه الأخير في مقبرة رأس منيف في محافظة عجلون، وشارك في تشييع جثمانه عدد كبير من كبار رجالات وأعيان الأردن، من وزراء وأعيان ونواب، والشيوخ والوجهاء، غير أن عمله الصالح يبقيه حياً بيننا بذكره الطيب وخلقه الرفيع.