عبد القادر التل: فارس لم يترجل رغم الغياب
هزاع البراري - المناضل والسياسي عبد القادر التل، اسم لا يمكن تجاوزه، عند التأريخ للحركة الوطنية الأردنية، التي برز نشاطها منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، وقد تعاظم دورها وتعمق أثرها انطلاقاً من العقد الأول من القرن العشرين، مواكباً الحركة القومية العربية، التي قادها الشباب العربي المتعلم في اسطنبول ودمشق وبيروت وفي عدد من الحواضر العربية، وكذلك إسهامات كبار الضباط العرب في الجيش العثماني، من أمثال القائد البطل علي خلقي الشرايري. وكان لقرب مدينة اربد وقراها من دمشق، التي اعتبرت مركزاً مؤثراً في الحراك العربي التحرري، ولصلاتها القوية مع مدن وبلدات حوران وجبل العرب والجولان وجنوب لبنان، أن جعل رجالاتها على تواصل ومعرفة بمجمل الأحداث في المنطقة، وعلى اطلاع بأنشطة رجالات الحركة القومية العربية، التي ظهرت تحت مسميات مختلفة، مجتمعة على هدف واحد، حرية الحرب وبناء مستقبلهم الذي يستحقونه، وما يتطلب ذلك من عمل وتضحيات.
عبد القادر التل المولد في اربد عام 1876، نشأ في بؤرة المرحلة المضطربة، حيث كانت تتنازع المنطقة أطماع الطامعين، وترزح تحت سنوات ثقيلة من البؤس والإهمال، وقد عرفت عشيرة التل برجالاتها، الذين تميزوا بدرهم العلمي والسياسي، بالإضافة لدورهم الاجتماعي. وقد عانت المنطقة في تلك فترة من عدم توفر المدارس، حيث عانى فيها الناس من تنكيل الدولة العثمانية، وسؤ الأحوال المادية والمعيشية. مما اضطر عبد القادر التل الالتحاق بالكتّاب، الذي يتعلم فيه الصبية القراءة والكتابة والحساب وحفظ أجزاء من القرآن الكريم، وهو البديل المتاح عن المدارس الرسمية، يشرف عليه إمام الجامع في الحي، وقد كان من الأطفال الأوفر حظاً، فقد أتيحت له الفرصة السفر إلى دمشق، والالتحاق بالمدرسة السلطانية، وهناك كان على صلة بكل ما يجري من أحداث وطنية، وتعرف على عدد من الشاب العربي المتنور، وبعد أن تخرج من هذه المدرسة، عاد إلى اربد حيث أنخرط في الحياة اليومية والأنشطة السياسية والاجتماعية.
تمتع عبد القادر التل بمكانة اجتماعية تجاوزت حدود مدينة اربد، فقد بنى علاقات وثيقة مع أبرز قادة الحركة الوطنية العربية، من أمثال أحمد مريود، وسلطان باشا الأطرش، وأحمد الخطيب، وشكري القوتلي، وكايد المفلح عبيدات، وسليمان السويدي، وناجي العزام، وغيرهم من رجالات النضال في بلاد الشام. وقد تم تعيين عبد القادر التل عضواً في مجلس قضاء سنجق عجلون عام 1914، وكان هذا السنجق يضم مدن وبلدات شمالي الأردن، حيث كانت عجلون مركز هذا السنجق، وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، وانضمت الدولة العثمانية إلى دول المحور، بدأت بتجنيد الشباب العربي، والدفع بهم دون تدريب كافٍ إلى جبهات القتال، في روسيا والبلقان والسويس، وكان عبد القادر على صلة بالجمعية العربية الفتاه، وكان يتلقى منشوراتها، من خلال مصطفى وهبي التل ومحمد صبحي أبو غنيمة، ويقوم بتعميمها في اربد، وخلال الحرب العالمية زاد من اتصالاته مع هذه الجمعية، من أجل توحيد المواقف باتجاه واحد.
خلال الحملة العثمانية على السويس، من أجل تحرير مصر من قبضة الإنجليز، وهي الحملة التي كان أبرز قادتها من الأردنيين أبناء اربد، فقد تم تعيين علي خلقي الشرايري قائداً للفرقة 17 في الجيش العثماني، وكلف بالتحرك لمهاجمة الإنجليز في السويس، وقد كان من قادة هذه الفرقة من أبناء اربد أيضاً: القائد خلف التل والقائد محمد القطب، والقائد أحمد التل والملازم الثاني أديب وهبة (محمود سعد عبيدات. عبد القادر التل. اللواء) وخلال الأيام الأولى حققت الحملة التي قادها جمال باشا والي سوريا، تقدماً مما دفع عبد القادر التل إلى إقامة احتفال شعبي كبير في سريا اربد، وقد دعي إلى هذا الحفل كبار رجالات الأردن وحوران والجولان، وشارك في الحفل الشاعر مصطفى وهبي التل « عرار « بإلقاء قصيدة حماسية، لكن الأمور انقلبت، وتفوق الإنجليز بفضل عددهم وتطور أسلحتهم وتدريبهم المتفوق.
شارك عبد القادر التل مع وفد من رجالات الأردن، بزيارة عزاء للمناضل أحمد مريود، في بلدة جباتا الخشب في الجولان، حيث تحول اللقاء إلى مؤتمر وطني شعبي، نوقشت فيه أحوال البلاد السياسية، ومستقبلها المنظور. وعندما تقدم جيش الثورة العربية شمالاً على طريق الأزرق درعا، استغل الإنجليز الأمر وتقدموا عبر الأغوار الشمالية، في محاولة لإخراج الحامية التركية الكبيرة، المتمركزة داخل مدينة اربد، وخططوا لقصفها بالمدافع، غير أن تدخل عبد القادر التل ورجالات اربد، حالوا دون تدمير المدينة، وقد كلف ذلك الإجراء الإنجليز خسائر جسيمة. بعد ذلك دخل جيش الثورة العربية دمشق، وأعلن قيام الحكومة العربية، ونودي بالأمير فيصل بن الحسين ملكاً على سوريا، وأعيد تقسم المنطقة إدارياً، ونظراً لخبرة عبد القادر التل في الأمور المالية والاقتصادية، تم تعيينه مديراً للمالية في مدينة اربد.
عارض عبد القادر التل انتخابات المجلس التشريعي عام 1928، بسبب القانون الجديد للانتخاب، وخاض انتخابات المجلس التشريعي الثالث ولم يفز بها، وقد تم رد ذلك لتدخل الحكومة بالانتخابات، لكنه عاد ونجح في انتخابات المجلس الخامس عام 1942، وكان عبد القادر مشاركاً بمعظم لجان المجلس، وفي لجان الرد على خطاب العرش، وقد تمكن التل من تشكيل كتلة برلمانية ضمت: حسين الطراونة، سالم الهنداوي، حمد بن جازي وفوزي المفتي، حيث ركزت مطالب هذه الكتلة على الثوابت الوطنية، والسعي لتحقيق استقلال الأردن، ودعم تطوير القوات المسلحة الأردنية. وبعد حصول الأردن على الاستقلال في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بعد مفوضات قادها سمو الأمير عبد الله الأول، في العاصمة البريطانية لندن، قام المجلس باستبدال اسم إمارة شرق الأردن باسم المملكة الأردنية الهاشمية، وبويع الأمير عبد الله الأول ملكاً على البلاد، وبدأ عهد جديد في الحياة البرلمانية الأردنية، حيث حل المجلس التشريعي، وقام مكانه مجلس النواب ومجلس الأعيان « مجلس الأمة «.
خاض عبد القادر التل انتخابات مجلس النواب الأول عام 1947، بعد أن حصل على أجماع معظم عشائر اربد مع شفيق رشيدات، وبذلك حقق نجاحاً واضحاً، وقد عرف التل بنشاطه البرلماني، وبحضوره القوي ومداخلاته التي حازت على إعجاب الجميع بمن فيهم جلالة الملك عبد الله الأول المؤسس، وقد انتخب هاشم خير رئيساً لمجلس النواب، غير أن رئاسته لم تطل، بسبب وفاته المفاجئة، لذا انتخب عبد القادر التل رئيساً لمجلس النواب، مما يؤكد على المكانة الكبيرة التي حظي بها، داخل المجلس وفي محيطه في مدن الشمال، وقد مكنته رئاسة المجلس من الاضطلاع بدور وطني كبير، جاء تأسيساً على ما تميز به من حس وطني عروبي أصيل، حيث واكب عمله في المجلس التشريعي فترة الاستقلال، وإعلان قيام المملكة الأردنية الهاشمية، وعضويته لأول مجلس نواب بعد الاستقلال، من ثم رئاسته لهذا المجلس، جعلته رجلاً وطنياً من طراز خاص، تحمل مع مجايليه أعباء المراحل الصعبة، وتمكنوا معاً وبتمسكهم بأرضهم ومبادئهم وقيادتهم، من الوصول بالأردن إلى بر الأمان، بظل قيادة هاشمية رشيدة.
لم يغادر عبد القادر التل نشاطه الاجتماعي الواسع، في مرحلة من المراحل، غير أنه قرر التفرغ له منذ عام 1950، فقد كان أحد كبار الوجهاء العشائريين، فقد كرس سنواته الأخيرة، لخدمة أهله وأبناء منطقته، من خلال إصلاح ذات البين، والقيام على حاجات الناس، ومساعدة كل من قصده، الأمر الذي زاد من قربه أكثر من الناس، فأحبوه وقدروا دوره ومكانته وتاريخه المشرق، وقد بقي كذلك لا يحيد عن منهجه، حتى توفي عام 1962، ورغم غيابه عن هذه الدنيا كل هذه السنين، يبقى حاضراً بيننا بما قدم لوطنه وأهله وقيادته، سيبقى ذكره الطيب حاضراً حضور الشجرة الطيبة.