هجرة النفس إلى النبي صلى الله عليه وسلم
قال الإمام العلامة شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى:
” وأما الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعَلَمٌ لم يبقَ منه سوى اسمه، ومنهجٌ لم تترك بنيَّات الطريق سوى رَسْمِه، ومحجةٌ سفَت عليها السوافي فطمست رسومها، وغارت عليها الأعادي فغَوَّرت مناهلها وعيونها، فسالكُها غريبٌ بين العباد، فريدٌ بين كل حي وناد، بعيدٌ على قرب المكان، وحيدٌ على كثرة الجيران، مستوحشٌ مما به يستأنسون، مستأنسٌ مما به يستوحشون، مقيمٌ إذا ظعنوا، ظاعنٌ إذا قطنوا، منفردٌ في طريق طلبه، لا يَقَرُّ قراره حتى يظفر بأربه، فهو الكائن معهم بجسده، البائن منهم بمقصده، نامت في طلب الهدى أعينهم، وما ليل مطيته بنائم، وقعدوا عن الهجرة النبوية، وهو في طلبها مشمِّرٌ قائم، يعيبونه بمخالفة آرائهم، ويزرون عليه ازراءه على جهالاتهم وأهوائهم، قد رجموا فيه الظنون، وأحدقوا فيه العيون، وتربصوا به ريب المنون [color:16e8="rgb(255, 0, 255)"]{فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} ، {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} .
نحن وإياكم نموت، فما … أفلح عند الحساب من نَدِما
والمقصود: أن هذه الهجرة النبوية شأنها شديد. وطريقها على غير المشتاق بعيد.
بعيد على كسلان أو ذي ملالة … أما على المشتاق فهو قريب
ولعمرُ الله ما هي إلا نور يتلألأ، ولكنْ أنت ظلامه، وبدرٌ أضاء مشارق الأرض ومغاربها، ولكن أنتَ غيمُه وقتامُه، ومنهلٌ عذبٌ صافٍ، وأنت كدره، ومبتدأ لخير عظيم ولكن ليس عندك خبره.
فاسمع الآن شأن هذه الهجرة والدلالة عليها، وحاسب ما بينك وبين الله، هل أنت من الهاجرين لها ،أو المهاجرين إليها؟
فحدُّ هذه الهجرة: سفر النفس في كل مسألة من مسائل إلايمان، ومَنزلٍ من منازل القلوب، وحادثة من حوادث الأحكام إلى معدن الهدى، ومنبع النور الملتقى من فم الصادق المصدوق الذي {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}، فكل مسألة طلعت عليها شمس رسالته، وإلا فاقذف بها في بحر الظلمات، وكل شاهد عدله هذا المزكى وإلا فعُده من أهل الريب والتهمات. فهذا حد هذه الهجرة.
فما للمقيم في مدينة طبعه وعوائده، القاطن في دار مرباه ومولده، القائل:إنا على طريقة آبائنا سالكون، وإنا بحبلهم متمسكون، وإنا على آثارهم مقتدون، وما لهذه الهجرة التي كلَّت عليهم، واستند في طريقة نجاحه وفلاحه إليهم، معتذراً بأن رأيهم خيرٌ من رأيه لنفسه، وأنَّ ظنونهم وآراءهم أوثق من ظنه وحدسه، ولو فتشت عن مصدر مقصود هذه الكلمة لوجدتها صادرة عن الإخلاد إلى أرض البطالة، متولدة بين الكسل وزوجه الملالة.
هجرتان
والمقصود: أن هذه الهجرة فرض على كل مسلم، وهي مقتضى ” شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ” كما أن الهجرة الأولى مقتضى ” شهادة أن لا إله إلا الله ” وعن هاتين الهجرتين يسأل كل عبد يوم القيامة وفي البرزخ، ويطالب بها في الدنيا ودار البرزخ ودار القرار.
قال قتادة: ” كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين؟ “.
وهاتان الكلمتان هما مضمون الشهادتين، وقد قال تعالى: [color:16e8="rgb(255, 0, 255)"]{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّاقَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ،فأقسم سبحانه بأجَلِّ مُقْسَمٍ به – وهو نفسه عز وجل – على أنه لا يثبت لهم الإيمان، ولا يكونون من أهله، حتى يحكِّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع موارد النزاع في جميع ابواب الدين. فإن لفظة ” ما ” من صيغ العموم فإنها موصلة تقتضي نفي الإيمان، أو يوجد تحكيمه في جميع ما شجر بينهم.
ولم يقتصر على هذا حتى ضم إليه انشراح صدورهم بحكمه حيث لا يجدون في أنفسهم حرَجاً – وهو الضيق والحصر – من حكمه، بل يقبلوا حكمه بالإنشراح، ويقابلوه بالتسليم لا أنهم يأخدونه على إغماض، ويشربونه على قذى، فإن هذا مناف للإيمان، بل لابد أن يكون أَخْذُه بقبول ورضا وانشراح صدر.
ومتى أراد العبد أن يعلم هذا فلينظر في حاله، ويطالع قلبه عند ورود حُكْمه على خلاف هواه وغرضه، أو على خلاف ما قلد فيه أسلافه من المسائل الكبار وما دونها [color:16e8="rgb(255, 0, 255)"]{بَلِ الأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} .
فسبحان الله! كم من حزازة في نفوس كثير من الناس من كثير من النصوص وبودهم أن لو لم ترد؟ وكم من حرارة في أكبادهم منها؟ وكم من شجىً في حلوقهم منها ومن موردها؟
ستبدو لهم تلك السرائر بالذي يسوء ويخزي يوم تبلى السرائر.
ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضم إليه قوله تعالى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}، فذكر الفعل مؤكداً بمصدره القائم مقام ذكره مرتين. وهو التسليم والخضوع له والإنقياد لما حكم به طوعا ورضاً، وتسليما لا قهراً ومصابرة، كما يسلِّم المقهور لمن قهره كرهاً، بل تسليم عبد مطيع لمولاه وسيده الذي هو أحب شئ إليه، يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليمه إليه، ويعلم بأنه أولى به من نفسه، وأبر به منها، وأقدر على تخليصها.
فمتى علم العبد هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم واستسلم له، وسلم إليه، انقادت له كل علة في قلبه ورأى أن لا سعادة له إلا بهذا التسليم والإنقياد.
وليس هذا مما يحصل معناه بالعبارة بل هو أمر انشق القلب واستقر في سويدائه، لا تفي العبارة بمعناه، ولا مطمع في حصوله بالدعوى والأماني.
وكلٌ يدعى وصلا لليلى … وليلى لا تقر لهم بذاك “
الرسالة التبوكية (ص22-26، بتصرف يسير)