المِنـة برسول الله صلى الله عليه وسلم
( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ )
إن ختام هذه الفقرة بهذه الحقيقة الكبيرة .
حقيقة الرسول صلى الله عليه وسلم وقيمتها الذاتية
وعظم المنة الإلهية بها , ودورها في إنشاء هذه الأمة وتعليمها
وتربيتها وقيادتها , ونقلها من الضلال المبين إلى العلم والحكمة والطهارة
إن هذا الختام يتضمن لمسات قرآنية كثيرة منوعة عميقة:
إنها تجيء ابتداء تعقيبا على الغنائم والطمع فيها والغلول ,
والانشغال بهذا الأمر الصغير , الذي كان الإنشغال به هو السبب المباشر
الذي قلب الموقف في المعركة , وبدل النصر هزيمة ,
وفعل بالمسلمين الأفاعيل .
فالإشارة إلى حقيقة الرسالة الكبيرة , والمنة العظيمة المتمثلة فيها ,
لمسة عميقة من لمسات التربية القرآنية الفريدة
. تبدو في ظلها غنائم الأرض كلها , وأسلاب الأرض كلها ,
وإعراض الأرض كلها :
شيئا تافها زهيدا , لا يذكر ولا يقدر .
شيئا تخجل النفس المؤمنة أن تذكره , بل تستحي أن تفكر فيه !
فضلا عن أن تشغل به !
وهي تجيء في سياق الحديث عن الهزيمة والقرح والألم
والخسارة التي أصابت الجماعة المسلمة في المعركة . .
فالإشارة إلى تلك الحقيقة الكبيرة , وما تمثله من منة عظيمة :
لمسة عميقة من لمسات التربية القرآنية العجيبة ,
تصغر في ظلها الآلام والخسائر ,
وتصغر إلى جانبها الجراح والتضحيات .
على حين تعظم المنة , ويتجلى العطاء الذي يرجح كل شيء
في حياة الأمة المسلمة على الإطلاق .
ثم . . الإشارة إلى آثار هذه المنة في حياة الأمة المسلمة
(يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ,
وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين). .
وهي تشي بالنقلة من حال إلى حال , ومن وضع إلى وضع ,
ومن عهد إلى عهد .
فتشعر الأمة المسلمة بما وراء هذه النقلة من قدر الله
الذي يريد بهذه الأمة أمرا ضخما في تاريخ الأرض , وفي حياة البشر ,
والذي يعدها لهذا الأمر الضخم بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم
فما ينبغي لأمة هذا شأنها , أن تشغل بالها بالغنائم
التي تبدو تافهة زهيدة في ظل هذا الهدف الضخم ,
ولا أن تجزع من التضحيات والآلام , التي تبدو هينة يسيرة
في ظل هذه الغاية الكبيرة . .
هذه بعض اللمسات المستفادة من ذكر هذه المنة في هذا السياق .
نذكرها باختصار وإجمال ،
لنواجه النص القرآني الحافل بالإيحاءات والظلال:
( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم). .
إنها المنة العظمى أن يبعث الله فيهم رسولا , وأن يكون هذا الرسول
(من أنفسهم). . إن العناية من الله الجليل ،
بإرسال رسول من عنده إلى بعض خلقه ,
هي المنة التي لا تنبثق إلا من فيض الكرم الإلهي .
المنة الخالصة التي لا يقابلها شيء من جانب البشر .
وإلا فمن هم هؤلاء الناس , ومن هم هؤلاء الخلق ,
حتى يذكرهم الله هذا الذكر , ويعنى بهم هذه العناية ?
ويبلغ من حفاوة الله بهم , أن يرسل لهم رسولا من عنده ,
يحدثهم بآياته - سبحانه - وكلماته ,
لولا أن كرم الله يفيض بلا حساب , ويغمر خلائقه بلا سبب منهم ولا مقابل ?
وتتضاعف المنة بأن يكون هذا الرسول "من أنفسهم" . .
لم يقل "منهم"
فإن للتعبير القرآني "من أنفسهم" ظلالا عميقة الإيحاء والدلالة . .
إن الصلة بين المؤمنين والرسول هي صلة النفس بالنفس ,
لا صلة الفرد بالجنس .
فليست المسألة أنه واحد منهم وكفى .
إنما هي أعمق من ذلك وأرقى .
ثم إنهم بالإيمان يرتفعون إلى هذه الصلة بالرسول ,
ويصلون إلى هذا الأفق من الكرامة على الله . فهو منة على المؤمنين . .
فالمنة مضاعفة , ممثلة في إرسال الرسول , وفي وصل أنفسهم
بنفس الرسول , ونفس الرسول بأنفسهم على هذا النحو الحبيب .
ثم تتجلى هذه المنة العلوية في آثارها العملية . .
في نفوسهم وحياتهم وتاريخهم الإنساني:
( يتلو عليهم آياته , ويزكيهم , ويعلمهم الكتاب والحكمة). .
تتجلى هذه المنة في أكبر مجاليها . في تكريم الله لهم . بإرسال رسول
من عنده يخاطبهم بكلام الله الجليل:
( يتلو عليهم آياته . .)
ولو تأمل الإنسان هذه المنة وحدها لراعته وهزته حتى ما يتمالك
أن ينصب قامته أمام الله , حتى وهو يقف أمامه للشكر والصلاة .. !
ولو تأمل أن الله الجليل - سبحانه - يتكرم عليه , فيخاطبه بكلماته .
يخاطبه ليحدثه عن ذاته الجليلة وصفاته ;
وليعرفه بحقيقة الألوهية وخصائصها .
ثم يخاطبه ليحدثه عن شأنه هو - هو الإنسان –
هو العبد الصغير الضئيل - وعن حياته , وعن خوالجه , وعن حركاته
وسكناته . يخاطبه ليدعوه إلى ما يحييه , وليرشده
إلى ما يصلح قلبه وحاله ، ويهتف به إلى جنة عرضها السماوات والأرض .
فهل هو إلا الكرم الفائض الذي يجري بهذه المنة ,
وهذا التفضل , وهذا العطاء ?
إن الله الجليل غني عن العالمين .
وإن الإنسان الضئيل لهو الفقير المحووج .
ولكن الجليل هو الذي يحفل هذا الضئيل , ويتلمسه بعنايته ,
ويتابعه بدعوته !
والغني هو الذي يخاطب الفقير ويدعوه ويكرر دعوته !
فيا للكرم ! ويا للمنة ! ويا للفضل والعطاء الذي لا كفاء له من الشكر والوفاء !
( ويزكيهم ). .
يطهرهم ويرفعهم وينقيهم .. يطهر قلوبهم وتصوراتهم ومشاعرهم .
ويطهر بيوتهم وأعراضهم وصلاتهم .
ويطهر حياتهم ومجتمعهم وأنظمتهم . .
يطهرهم من أرجاس الشرك والوثنية والخرافة والأسطورة ,
وما تبثه في الحياة من مراسم وشعائر وعادات وتقاليد هابطة
مزرية بالإنسان وبمعنى إنسانيته . .
ويطهرهم من دنس الحياة الجاهلية , وما تلوث به المشاعر
والشعائر والتقاليد والقيم والمفاهيم .
وقد كان لكل جاهلية من حولهم أرجاسها ,
وكان للعرب جاهليتهم وأرجاسها .
من أرجاسها هذا الذي وصفه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه
وهو يحدث نجاشي الحبشة في مواجهة رسولي قريش إليه ,
وقد جاءا إليه ليسلمهما المهاجرين من المسلمين عنده . .
يقول جعفر:
"أيها الملك . كنا قوما أهل جاهلية , نعبد الأصنام , ونأكل الميتة ,
ونأتي الفواحش , ونقطع الأرحام , ونسيء الجوار ,
ويأكل القوي منا الضعيف . .
فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا , نعرف نسبه وصدقه
وأمانته وعفافه . فدعانا إلى الله وحده لنوحده ونعبده ,
ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ,
وأمرنا بصدق الحديث , وأداء الأمانة , وصلة الرحم , وحسن الجوار
والكف عن المحارم والدماء . ونهانا عن الفواحش , وقول الزور ,
وأكل مال اليتيم , وقذف المحصنات ,
وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا , وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ". .
ومن أرجاسها ما حكته عائشة - رضي الله عنها - وهي تصور
أنواع الاتصال بين الجنسين في الجاهلية كما جاء في صحيح البخاري ,
في هذه الصورة الهابطة الحيوانية المزرية:
"إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء .
فنكاح منها نكاح الناس اليوم:يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته ,
فيصدقها , ثم ينكحها . . والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته
إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه !
ويعتزلها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه !
فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب .
وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الرجل !!
فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع .
. ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة , فيدخلون على المرأة ,
كلهم يصيبها . فإذا حملت ووضعت , ومر عليها ليال
بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم , فلم يستطع رجل منهم
أن يمتنع ، حتى يجتمعوا عندها , تقول لهم : قد عرفتم الذي كان
من أمركم , وقد ولدت . فهو إبنك يا فلان . تسمي من أحبت منهم
باسمه فيلحق به ولدها . ولا يستطيع أن يمتنع منه الرجل !!
والنكاح الرابع : يجتمع الناس الكثير , فيدخلون على المرأة
لا تمتنع ممن جاءها - وهن البغايا , كن ينصبن على أبوابهن رايات
تكون علما - فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن
ووضعت حملها , جمعوا لها , ودعوا لهم القافة ,
ثم الحقوا ولدها بالذي يرون , فالتاطه , ودعي إبنه , لا يمتنع من ذلك !! " . .
ودلالة هذه الصور على هبوط التصور الإنساني وبهيميته
لا تحتاج إلى تعليق .
ويكفي تصور الرجل , وهو يرسل امرأته
إلى "فلان" لتأتي له منه بولد نجيب . تماما كما يرسل ناقته أو فرسه
أو بهيمته إلى الفحل النجيب , لتأتي له منه بنتاج جيد !
ويكفي تصور الرجال - ما دون العشرة ! - يدخلون إلى المرأة مجتمعين
"كلهم يصيبها ! " . . ثم تختار هي أحدهم لتلحق به ولدها !
أما البغاء - وهو الصورة الرابعة - فهو البغاء !
يزيد عليه إلحاق نتاجه برجل من البغاة ! لا يجد في ذلك معرة !
ولا يمتنع من ذلك !
إنه الوحل . الذي طهر الإسلام منه العرب . وزكاهم .
وكانوا - لولا الإسلام - غارقين إلى الأذقان فيه !
ولم يكن هذا الوحل في العلاقات الجنسية إلا طرفا من النظرة الهابطة
إلى المرأة في الجاهلية .
.
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه القيم
"ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين":
"وكانت المرأة في المجتمع الجاهلي عرضة غبن وحيف , تؤكل حقوقها ,
وتبتز أموالها , وتحرم من إرثها , وتعضل بعد الطلاق
أو وفاة الزوج من أن تنكح زوجا ترضاه وتورث كما يورث المتاع أو الدابة
عن ابن عباس قال : " كان الرجل إذا مات أبوه أو حموه ,
فهو أحق بامرأته , إن شاء أمسكها أو يحبسها حتى تفتدى بصداقها ,
أو تموت فيذهب بمالها
" . . وقال عطاء بن رباح . . " إن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل ,
فترك امرأة حبسها أهله على الصبي يكون فيهم " . .
وقال السدي:إن الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو إبنه ,
فإذا مات وترك امرأته , فإن سبق وارث الميت فألقى عليها ثوبه
فهو أحق بها أن ينكحها بمهر صاحبه , أو ينكحها فيأخذ مهرها .
وإن سبقته فذهبت إلى أهلها فهي أحق بنفسها " .
وكانت المرأة في الجاهلية يطفف معها الكيل , فيتمتع الرجل بحقوقه
ولا تتمتع هي بحقوقها , يؤخذ مما تؤتي من مهر ,
وتمسك ضرارا للاعتداء . وتلاقي من بعلها نشوزا أو إعراضا ,
وتترك في بعض الأحيان كالمعلقة . ومن المأكولات ما هو خالص للذكور
ومحرم على الإناث . وكان يسوغ للرجل أن يتزوج ما يشاء من غير تحديد .
"وقد بلغت كراهة البنات إلى حد الوأد .
ذكر الهيثم بن عدي - على ما حكاه عنه الميداني –
أن الوأد كان مستعملا في قبائل العرب قاطبة , فكان يستعمله واحد
ويتركه عشرة . فجاء الإسلام , وكانت مذاهب العرب مختلفة في وأد الأولاد .
فمنهم من كان يئد البنات لمزيد الغيرة ومخافة لحوق العار بهم من أجلهن .
ومنهم من كان يئد من البنات من كانت زرقاء . أو شيماء [ سوداء ]
أو برشاء [ برصاء ] أو كسحاء [ عرجاء ] تشاؤما منهم بهذه الصفات .
ومنهم كان يقتل أولاده خشية الإنفاق , وخوف الفقر . .
"وكانوا يقتلون البنات ويئدونهن بقسوة نادرة في بعض الأحيان ,
فقد يتأخر وأد الموءودة لسفر الوالد وشغله , فلا يئدها إلا وقد كبرت ,
وصارت تعقل . وقد حكوا في ذلك عن أنفسهم مبكيات .
وقد كان بعضهم يلقي الأنثى من شاهق" . .
ومن أرجاسها - وأصل هذه الأرجاس جميعا - :
الشرك والوثنية الهابطة الساذجة :
كما يصورها في إجمال الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه:
"انغمست الأمة في الوثنية وعبادة الأصنام بأبشع أشكالها .
فكان لكل قبيلة أو ناحية أو مدينة , صنم خاص ,
بل كان لكل بيت صنم خصوصي .
قال الكلبي:كان لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه ,
فإذا أراد أحدهم السفر , كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به ,
وإذا قدم من سفره كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به أيضا" .
واستهترت العرب في عبادة الأصنام , فمنهم من اتخذ بيتا ,
ومنهم من اتخذ صنما ; ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت
نصب حجرا أمام الحرم , وامام غيره مما استحسن ,
ثم طاف به كطوافه بالبيت , وسموها الأنصاب . وكان في جوف الكعبة
- البيت الذي بني لعبادة الله وحده - وفي فنائها ثلاثمائة وستون صنما .
وتدرجوا من عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة جنس الحجارة .
روى البخاري عن أبي رجاء العطاردي , قال:
كنا نعبد الحجر ، فإذا وجدنا حجرا هو خيرا منه القيناه وأخذنا الآخر ;
فإذا لم نجد حجرا جمعنا حثوة من تراب , ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه
ثم طفنا به . وقال الكلبي: كان الرجل إذا سافر فنزل منزلا ,
أخذ أربعة أحجار , فنظر إلى أحسنها , فاتخذه ربا ,
وجعل ثلاث أثافي لقدره , وإذاارتحل تركه .
"وكان للعرب - شأن كل أمة مشركة في كل زمان ومكان :
آلهة شتى من الملائكة والجن والكواكب
. فكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله فيتخذونهم شفعاء لهم عند الله ,
ويعبدونهم , ويتوسلون بهم عند الله .
واتخذوا كذلك معه الجن شركاء لله , وآمنوا بقدرتهم وتأثيرهم , وعبدوهم .
قال الكلبي:كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن .
وقال صاعد:كانت حمير تعبد الشمس . وكنانة القمر . وتميم الدبران .
ولخم وجذام المشتري . وطي سهيلا . وقيس الشعري العبور . وأسد عطاردا" .
ويكفي أن يتصفح الإنسان هذه الصورة البدائية الغليظة من الوثنية ,
ليعرف أي رجس كانت تنشره في القلوب والتصورات وفي واقع الحياة !
ويدرك النقلة الضخمة التي نقلها الإسلام للقوم , والطهارة
التي أسبغها على تصوراتهم وعلى حياتهم سواء .
ومن هذه الأرجاس تلك الأدواء الخلقية والاجتماعية ,
التي كانت في الوقت ذاته من مفاخرهم في أشعارهم
! ومن مفاخراتهم في أسواقهم ! من الخمر إلى القمار إلى الثارات
القبلية الصغيرة , التي تشغل اهتماماتهم ,
فلا ترتفع على تلك التصورات المحلية المحدودة:
"هانت عليهم الحرب وإراقة الدماء حتى كانت تثيرها حادثة
ليست بذات خطر . فقد وقعت الحرب بين بكر وتغلب إبني وائل ,
ومكثت أربعين سنة أريقت فيها دماء غزيرة , وما ذاك إلا
أن كليبا رئيس معد , رمى ضرع ناقة البسوس بنت منقذ
فاختلط دمها بلبنها ; وقتل جساس بن مرة كليبا ,
واشتبكت الحرب بين بكر وتغلب . وكانت كما قال المهلهل أخو كليب:
"قد فني الحياة , وثكلت الأمهات , ويتم الأولاد . دموع لا ترقأ ,
وأجساد لا تدفن" .
"وكذلك حرب داحس والغبراء . فما كان سببها إلا أن داحسا
فرس قيس بن زهير , كان سابقا في رهان بين قيس بن زهير
وحذيفة بن بدر , فعارضه أسدي بإيعاز من حذيفة , فلطم وجهه
وشغله , ففاتته الخيل . وتلا ذلك قتل , ثم أخذ بالثأر .
ونصر القبائل لأبنائها , وأسر , ونزح للقبائل ,
وقتل في ذلك ألوف من الناس" .
وكان ذلك علامة فراغ الحياة من الاهتمامات الكبيرة , ا
لتي تشغلهم عن تفريغ الطاقة في هذه الملابسات الصغيرة .
إذ لم تكن لهم رسالة للحياة , ولا فكرة للبشرية , ولا دور للإنسانية ,
يشغلهم عن هذا السفساف . .
ولم تكن هناك عقيدة تطهرهم من هذه الأرجاس الاجتماعية الذميمة . .
وماذا يكون الناس من غير عقيدة إلهية ? ماذا تكون اهتماماتهم
? وماذا تكون تصوراتهم ? وماذا تكون أخلاقهم ?
إن الجاهلية هي الجاهلية . ولكل جاهلية أرجاسها وأدناسها .
لا يهم موقعها من الزمان والمكان . فحيثما خلت قلوب الناس من
عقيدة إلهية تحكم تصوراتهم , ومن شريعة - منبثقة من هذه العقيدة –
تحكم حياتهم , فلن تكون إلا الجاهلية في صورة من صورها الكثيرة . .
.
والجاهلية التي تتمرغ البشرية اليوم في وحلها ,
لا تختلف في طبيعتها عن تلك الجاهلية العربية أو غيرها من الجاهليات
التي عاصرتها في أنحاء الأرض , حتى أنقذها منها الإسلام وطهرها وزكاها .
إن البشرية اليوم تعيش في ماخور كبير !
ونظرة إلى صحافتها وأفلامها ومعارض أزيائها . ومسابقات جمالها ,
ومراقصها , وحاناتها . وإذاعاتها .
ونظرة إلى سعارها المجنون للحم العاري , والأوضاع المثيرة ,
والإيحاءات المريضة , في الأدب والفن وأجهزة الإعلام كلها . .
إلى جانب نظامها الربوي , وما يكمن وراءه من سعار للمال ,
ووسائل خسيسة لجمعه وتثميره , وعمليات نصب واحتيال وابتزاز
تلبس ثوب القانون . . وإلى جانب التدهور الخلقي والانحلال الاجتماعي ,
الذي أصبح يهدد كل نفس وكل بيت , وكل نظام , وكل تجمع إنساني . .
نظرة إلى هذا كله تكفي للحكم على المصير البائس الذي تدلف إليه البشرية
في ظل هذه الجاهلية .
إن البشرية تتآكل إنسانيتها , وتتحلل آدميتها , وهي تلهث وراء الحيوان ,
ومثيرات الحيوان ، لتلحق بعالمه الهابط ! والحيوان أنظف وأشرف وأطهر .!
لأنه محكوم بفطرة حازمة لا تتميع , ولا تأسن كما تأسن شهوات الإنسان
حين ينفلت من رباط العقيدة , ومن نظام العقيدة , ويرتد إلى الجاهلية
التي أنقذه الله منها , والتي يمتن الله على عباده المؤمنين
بتطهيرهم منها في تلك الآية الكريمة:
( ويعلمهم الكتاب والحكمة). .
وكان المخاطبون بهذه الآية أميين جهالا . أمية القلم , وأمية العقل سواء .
وما كان لهم من المعرفة شيء ذو قيمة بالمقاييس العالمية للمعرفة ,
في أي باب من الأبواب
. وما كان لهم في حياتهم من هموم كبيرة تنشىء معرفة
ذات قيمة عالمية في أي باب من الأبواب
. فإذا هذه الرسالة تحيلهم أساتذة الدنيا , وحكماء العالم ,
وأصحاب المنهج العقيدي والفكري والاجتماعي والتنظيمي ,
الذي ينقذ البشرية كلها من جاهليتها في ذلك الزمان
. والذي يرتقب دوره في الجولة القادمة - بإذن الله - لإنقاذ البشرية
مرة أخرى من جاهليتها الحديثة , التي تتمثل فيها كل خصائص الجاهلية
القديمة ; من النواحي الأخلاقية والاجتماعية ;
وتصور أهداف الحياة الإنسانية وغاياتها كذلك !
على الرغم من فتوحات العلم المادي والإنتاج الصناعي ,
والرخاء الحضاري !
( وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين).
ضلال في التصور والاعتقاد , وضلال في مفهومات الحياة ,
وضلال في الغاية والاتجاه , وضلال في العادات والسلوك ,
وضلال في الأنظمة والأوضاع , وضلال في المجتمع والأخلاق . .
والعرب الذين كانوا يخاطبون بهذه الآية كانوا يذكرون - ولا شك –
ماضي حياتهم وأوضاعهم ، ويعرفون طبيعة النقلة التي نقلهم إليها الإسلام ,
وما كانوا ببالغيها بغير الإسلام ;
وهي نقلة غير معهودة في تاريخ بني الإنسان .
كانوا يدركون أن الإسلام - والإسلام وحده –
هو الذي نقلهم من طور القبيلة , واهتمامات القبيلة , وثارات القبيلة ,
لا ليكونوا أمة فحسب . ولكن ليكونوا - على حين فجأة
ومن غير تمهيد يتدخل فيه الزمن –
أمة تقود البشرية , وترسم لها مثلها , ومناهج حياتها , وأنظمتها كذلك ,
في صورة غير معهودة في تاريخ البشرية الطويل .
كانوا يدركون أن الإسلام - والإسلام وحده –
هو الذي منحهم وجودهم القومي ,
ووجودهم السياسي ووجودهم الدولي . .
وقبل كل شيء وأهم من كل شيء . . وجودهم الإنساني
الذي يرفع إنسانيتهم , ويكرم آدميتهم
ويقيم نظام حياتهم كله على أساس هذا التكريم , الذي جاءهم
هدية ومنه من لدن ربهم الكريم . والذي أفاضوه هم على البشرية كلها
بعد ذلك , وعلموها كيف تحترم "الإنسان" وتكرمه بتكريم الله .
غير مسبوقين في هذا , لا في الجزيرة العربية , ولا في أي مكان . .
وفي اللفتة السابقة إلى "الشورى " طرف من هذا المنهج الإلهي ,
الذي كانوا يدركون فيه عظم المنة عليهم من الله .
وكانوا يدركون أن الإسلام - والإسلام وحده –
هو الذي جعل لهم رسالة يقدمونها للعالم ، ونظرية للحياة البشرية ,
ومذهبا مميزا للحياة الإنسانية . .
والأمة لا توجد في الحقل الإنساني الكبير إلا برسالة ونظرية ومذهب ,
تقدمه للبشرية , لتدفع بالبشرية إلى الإمام .
وقد كان الإسلام , وتصوره للوجود , ورأيه في الحياة ,
وشريعته للمجتمع , وتنظيمه للحياة البشرية ,
ومنهجه المثالي الواقعي الإيجابي لإقامة نظام يسعد في ظله "الإنسان"
. . كان الإسلام بخصائصه هذه هو "بطاقة الشخصية "
التي تقدم بها العرب للعالم , فعرفهم , واحترمهم , وسلمهم القيادة .
وهم اليوم وغدا لا يحملون إلا هذه البطاقة .
ليست لهم رسالة غيرها يتعرفون بها إلى العالم .
وهم إما أن يحملوها فتعرفهم البشرية وتكرمهم ;
وإما أن ينبذوها فيعودوا هملا - كما كانوا - لا يعرفهم أحد ,
ولا يعترف بهم أحد !
وما الذي يقدمونه للبشرية حين لا يتقدمون إليها بهذه الرسالة ?
يقدمون لها عبقريات في الآداب والفنون والعلوم..؟!
لقد سبقتهم شعوب الأرض في هذه الحقول . والبشرية تغص بالعبقريات
في هذه الحقول الفرعية للحياة . وليست في حاجة ولا في انتظار
إلى عبقريات من هناك في هذه الحقول الفرعية للحياة !
يقدمون لها عبقريات في الإنتاج الصناعي المتفوق , تنحني له الجباه ,
ويغرقون به أسواقها , ويغطون به على ما عندها من انتاج ? ?
لقد سبقتهم شعوب كثيرة , في يدها عجلة القيادة في هذا المضمار !
يقدمون لها فلسفة مذهبية اجتماعية , ومناهج اقتصادية وتنظيمية
من صنع أيديهم , ومن وحي أفكارهم البشرية ?
إن الأرض تعج بالفلسفات والمذاهب والمناهج الأرضية .
وتشقى بها جميعا غاية الشقاء !
ماذا إذن يقدمون للبشرية لتعرفهم به ,
وتعترف لهم بالسبق والتفوق والامتياز ?
لا شيء إلا هذه الرسالة الكبيرة . لا شيء إلا هذا المنهج الفريد .
لا شيء إلا هذه المنة التي اختارهم الله لها , وأكرمهم بها ,
وأنقذ بها البشرية كلها على أيديهم ذات يوم .
والبشرية اليوم أحوج ما تكون إليها ,
وهي تتردى في هاوية الشقاء والحيرة والقلق والإفلاس !
إنها - وحدها - بطاقة الشخصية التي تقدموا بها قديما للبشرية ,
فأحنت لها هامتها . والتي يمكن أن يقدموها لها اليوم ,
فيكون فيها الخلاص والإنقاذ .
إن لكل أمة من الأمم الكبيرة رسالة .
وأكبر أمة هي التي تحمل أكبر رسالة . وهي التي تقدم أكبر منهج .
وهي التي تتفرد في الأرض بأرفع مذهب للحياة .
والعرب يملكون هذه الرسالة - وهم فيها أصلاء , وغيرهم من الشعوب هم شركاء -
فأي شيطان يا ترى يصرفهم عن هذا الرصيد الضخم ?
أي شيطان ?!
لقد كانت المنة الإلهية على هذه الأمة بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم
وبهذه الرسالة عظيمة عظيمة .
وما يمكن أن يصرفها عن هذه المنة إلا شيطان . .
وهي مكلفة من ربها بمطاردة الشيطان !