أمــي .. الغائبة الحاضـــرة
ثقلت الدنيــا عليـها .. لم يعد جسدها الواهن الضعيف يقوى على الإحتمال .. صورتها الحلوة الجميلة ، بصمة حب طبعت فى قلبى وعقلى معا .. بصمة تبعث كوامن نفسى ،ترجفها بعنف يهتز لها كيانى كله .. أثر عميق لايندمل ولايجف أبدا ، وكيف يجف وقد كانت نبع الحياة الصافى الضافى .. كانت أكثر تعبيرا عن سمو الكبرياء والعظمة .. وكانت رمزا للشموخ والرفعة .. كانت حبا متدفقا ليس لأبنائها فقط ولكن لكل من كان يعرفها .
لم تقو ، فترفعت عن الحياة ، وكانت أرادة الله التى منحتها الراحة ، من عذابها ومرضها ، ولحياتها الصعبة القاسية ، فقد كان قدرها أن تتحمل أعباء أسرتها كاملة مليئة بالمشاكل ، كم تمنيت أن أصارع المستحيل فى سبيل التخفيف عنها وعن عبء فرض نفسه عليها فرضا وبقوة ، كان لها بلاء وابتلاء ، وامتحانا صعبا رهيبا ، كنت أحاول فى حدود مامنحنى الله من قوة ، ولم أستطع ، وياليتنى كنت أستطيع ، لكنت محوت عنها كل عذاب .. وسحقت منها كل مرض .. ولنزعت القهر والقلق والتوتر والألم والدموع والجراح العميقة ، تلك ماعجل صنع نهايتها .. نهاية حياة أمى ، فانتهى بذلك صبرها ، ووهى جلدها ، وضاع شبابها الغض ، وراحت طلعتها الحلوة التى كانت تملأ حياتى اطمئنانا وسكينة . شريط الذكريات يعود بى كل يوم إلى حيث كانت ، فهى لازالت تملأ الدنيا حيوية ونشاطا ، لاتعرف الكلل رغم مابها من أمراض ، لقد تركت أمى الدنيا والبيت والولد والزوج والأهل عن عمر لايتجاوز الخمسين عاما .. مضت غير عابئة ، وكيف تعبء وقد عاشت أيامها باحثة عن سعادة لم تبلغها بعد ، وأمل طال مداه .. وفرحة طالما رجوت أن تتلمسها فى سعادة ابن ، أو بسمة حياة ، أو تنعم بمداعبة الأحفاد .. عاشت والمال فى يدها قليل ، أقل من تدبير حال بيتها فأكسبها ذلك فطنة لم أعهده فى إنسان قط ، فلم نشعر للحظة واحدة أننا حرمنا من شيئ ، بل عشنا فى رفاهية فى حدود المتاح من المال الذى كان يكد و يتعب فيه والدى ، فكنا نقدر قيمته وننعم ببركته ،
كما اكسبت الحياة أمى الكثير ، فقد كانت لبقة ، ذكية القلب والعقل معا ، تعرف كيف تخفى مايعترك بداخلها عن أعين الناس ماكانت تكره أن يراه أحد ، وكانت توفق بفضل هذه اللباقة وهذا الذكاء مايجعلها تبدو شديدة الحرص على ألا تجزع أمام أحد رغم اختلاف هذه المشاكل وتنوع حدتها ، ولكن أى شيئ يبقى على الأيام ، لقد ذهبت ، كما ذهبت الأيام بنضرة شبابها ، كما ذهبت الأيام بكل ماكان يجب أن يكون لدينا من مال وأرض وأملاك لم نتملك منها شبرا واحدا ، فقد أخذت الحكومة إبان الثورة كل أملاك جدى أيام التأميم ، وأخذ الغير كل ماتبقى لنا من ميراث جدتى ، وأصبحوا ينعمون بحقنا الشرعى ، أما نحن فقد آثر والدى على أن ينجو بنا من الصراع الدامى على هذا الميراث ، ميراث الغضب ، بعد أن كتب جدى بقية أملاكه من ميراث جدتى لزوجته العاقر ، ليستفيد بها أولاد أختها بعد موتها ، وقد كان ، بل وزاد على ذلك المشاكل الكثيرة التى وضعنا فيها أخى الأصغر بأحلامه الطائرة الطائشة ، و مع الأسف كانت كلها مادية وبسبب إمرأة ــ أيضا ــ أرملة استطاعت هى الأخرى أن تخدعه وتملك عليه أمره ، ولكن كانت الخسائر فى هذه المرة مقدرات بيتنا الهادئ الجميل ، كل ذلك جعل أمى تستدين وماكانت للأستدانة بحاجة ، لكن القدر والإبتلاء وامتحانات الدهر المتلاحقة ، جعل منها أيضا امرأة مذعنة لحكم قضاء الله فيها وبمسئوليتها الرهيبة التى كتبت لها ، فكانت لاتنكر شيئا ، محزونة ولكن فى دعة ، ملتاعة لكن فى هدوء ، لايحسه أحد من شدة حرصها على إخفاء مايضمره نفسها ، وكتمان ماتحس ، واحتفظت لنفسها بمشاكلها وخطوبها ، حتى نحن حاولت قدر الإمكان أن تبعدنا عن دائرة هذه المشاكل ، فكان كل من يعرفها يختلف اختلافا بينا فى تقدير أمرها وتربيتها لابنائها وحسن تدبير شئونها ومع كل هذا الإخفاء فإنها لم تستطع أن تخفى ماأودعه الله فى نفسها من ملكات مالايستطيع أن ينكره عليها أحد ، حيث كانت قوية الشخصية ، سمحة الطبع ، رضية النفس ، سخية اليد ، حلوة العشرة ، عذبة الحديث ، تملك قلبا يفيض بالحب ، بسيطة ، متواضعة ، قوية الإيمان ، تسيطر عليها نزعة دينية ، رغم عدم بلوغها من التعليم مايساوى فطنتها وذكاءها الحاد ، فكانت تتعلم الأشياء بحسها الواعى ، إنها كانت تملك نفسا تعرف كيف تضبط أهواءها ، ورغم كل ذلك لم تظفر بعد بحياة هادئة كطبعها ، فما زاد ذلك إلا دفعا للعمل على مسئولياتها ، واضطرابها فى الحياة إلى قوة خفية وتماسكا مع الأيام ، فكان نهارها جهدا وعملا ، وليلها لاتعرف جفونها النوم فيه ، كانت أمى لاتنام من الليل إلا القليل ، كل ذلك جعلها تحس احساسا قويا ، ولكنه غامض ، أن الأيام قد وفتها حظها وأنه جاء على غير ماتحب ، أو كما تمنت أن تراه ، فكان لها هذا مصدر ألم وحزن ، تعيشه وتقدره وتنتظره .