الشيخ المعلم
الأستاذ الدكتور عبد الكريم غرايبه
• هاشم غرايبه
لأسرة قروية عريقة أهم ما يميزها الانتماء إلى الأرض والحفاظ عليها ولد الأستاذ الدكتور عبد الكريم الغرايبه عام 1923 في قرية المغير في محافظة إربد في فترة كان يحيق الجهل بالأمة وتطبق الأمية على أهالي المنطقة العربية قاطبة , ولم يكن عدد المتعلمين يشكل نسبة يعتد بها إلى عدد السكان , غير أن والده محمود باشا الخالد الغرايبه أحد وجهاء المنطقة كان يدرك تماما أهمية العلم والتعلم إلى جانب إدراكه قدسية المحافظة على الأرض كأي ( فلاح ) يرى في موطنه سر بقائه , فاهتم بتربية ابنه تربية وطنية صالحة رسخت فيه القيم الأصيلة والخصال الحميدة , ثم دفعه إلى ميادين العلم ليكون قادراً على خدمة وطنه بالعطاء المتميز بعيدا عن المكتسبات التي يعتبرها البعض مزية يختص بها الذين تزداد أعطياتهم ويقل عطاؤهم
تخرج عبد الكريم الغرايبه حاملا شهادة الدكتوراة في التاريخ الحديث عام1951 من لندن في المملكة المتحدة كأول أردني يحصل على هذه الشهادة , وعمل في التدريس لمادة التاريخ في الجامعة السورية إلى أن تأسست الجامعة الأردنية فانتقل للتدريس فيها مع استقبالها أولى أفواجها , واستمر لم يغادرها إلى غيرها إلى أن تقاعد , ولم يكن يتعامل مع مادة علمه بمعزل عن باقي العلوم الأخرى , بل كان ولا يزال يستقرئ التاريخ من بين ثنايا شتى العلوم , فهو يربط في دراساته التاريخية ما بين السياسة والاقتصاد والاجتماع واللغة وغيرها من العلوم التي يرى قوة تأثيرها في مجرى التاريخ الذي تحدثه العديد من الجوانب المؤثرة في حياة البشرية التي هي مدار بحث المؤرخين , غير أن للدكتور عبد الكريم غرايبه مقولته التي طالما كررها في أكثر من مناسبة أن الأصل في قراءة التاريخ عدم براءة كاتبيه , ويؤكد على أن كل مؤرخ متهم , وكل رواية تاريخية متهمة كذلك , فالتسليم فيما بين طيات الكتب والإقرار به ليس من صفة الباحث الذي يجب أن يستثمر بحثه للكشف عن الحقيقة فالبحث عن الحقيقة لا ينتهي حسب رأي الدكتور عبد الكريم الغرايبه , فتتابع الدراسات وتواصل البحوث ينقض ما كان مؤكداً في الأمس , وعلى الباحث الحقيقي أن يوطن نفسه لقبول أي رأي آخر يأتي به باحث اليوم ينفي صحة ما أقرَّ به غيره بالأمس دون أن يبدو في ذلك انتقاص لجهد السابقين من المؤرخين الحقيقيين , والباحثين الجادين الذين يعملون لغايات البحث بلا انحياز لصالح جهة أو مصلحة أو سلطة .
مما سبق ذكره مما تضمن بعضا من آراءٍ للدكتور عبد الكريم الغرايبه نرى أن الرجل لا يتعصب إلى علمه أو دراسته أو مادة تدريسه , ولم يتحيز لرأيه وينبري للدفاع عنه كالكثيرين الذين لا يمتلكون من الحقيقة إلا أقلها وينصبون أنفسهم أربابا لكل الحقائق , بل أنه يذهب إلى القول لطلابه الذين يلقي عليهم محاضراته بأن كلامه الذي يردده على مسامعهم غير صحيح من حيث المبدأ وأن الشك بالمسلمات هو سلَّم المعرفة , وفي هذا القول ما يستدل به على أنه يتعامل مع العلم كمتغير غير ثابت , بعقلية واعية وبروح ذات أريحية لا تجد حرجا من تبدل ما يُظن للحظة ثباتُه , مثلما يُستقرأ من أسلوبه - الذي يبدو عند الآخرين تشكيكيا - بأن الرجل رحب الصدر واسع العلم لا يضيق بالآخر ولا يحتكر الشيء لنفسه
وللدكتور عبد الكريم الغرايبه رأيه في الشباب الذين يعتبرهم عدة الحاضر وأمل المستقبل , ويطالبهم دوما بعدم التردد أو الاستسلام للواقع المرير مثلما يدفعهم إلى التحرر من قيود الخوف المتوهمة أحيانا والواقعة حالا أحيانا أخرى , ويخاطبهم بقوله : " إذا كنتم تخافون التصريح بآرائكم والتعبير عن أفكاركم وأنتم بهذا السن وفي هذه المرحلة من الحياة ، فلمن تتركون الجرأة ؟ أنتم في سن الجرأة لا أنا " . ورداً على سؤال لجلالة المرحوم الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه عندما سأله عن توجهات الطلبة قال : " إن الشباب يقتلهم الخوف من المستقبل , ولا يمكن للخائف أن يجد الحقيقة " . وفي هذا إدراك عميق من الدكتور عبد الكريم الغرايبه لأهمية دور الشباب الذين سيُلقى على عواتقهم يوما ما حمل ثقيل لا يمكن لهم أن يؤدوا رسالتهم تجاهه دون إعدادهم جيدا لمرحلتهم المقبلة وذلك بإفساح المجال أمامهم للعمل دون التشكيك بقدراتهم , أو التقليل من أهمية طاقاتهم الكامنة التي يمنعها من الظهور التهيب من عوامل الإحباط التي غالبا ما يصطدم بها الشباب , لا بل يجب تحفيز هذه الطاقات وتمكين الجرأة في نفوسهم لجعلهم أكثر ثقة بأنفسهم وأكثر توقا للعمل وانخراطا فيه .
كما أن له رأي في المرأة مخالف للسائد الذي يكرس من لدن الجهات الرسمية " بتمكين المرأة " في العمل العام تحت مسمى " حقوق المرأة " , وهو يجد بأن هذا الأسلوب أشبه ما يكون " بذر الرماد في العيون " – عيون المرأة - ملمحا إلى أن على العالم بأجمعه أن يعيد النظر بكيفية احترام المرأة , فعلى الرغم من المناداة بالمساواة في الحقوق وعلى الرغم من نشاط الحركات النسوية إلا أن المرأة لا زالت تستغل كسلعة أو وسيلة للترويج لسلعة , قائلا : " ما فائدة أن تكون المرأة وزيرة أو مديرة أو عضوا في " البرلمان " وهي لا تلقى احتراما من زوجها أو زميلها " متسائلا : " كم عدد النساء العاملات في الشأن العام إلى عدد النساء المستغلات كسلع " .
ولن أتجاوز رأي الدكتور عبد الكريم الغرايبه في الطفولة التي تعتبر من أخطر مراحل التنشئة , فإن صلحت في مبتداها قادت إلى صلاح مجتمع بأكمله , فأطفال اليوم هم شباب الغد وعدة المستقبل , فاحترام الطفل لا يعني " الدلال " برأي عبد الكريم الغرايبه , بل يعني حسن التنشئة وصلاح التربية , والموازنة بين ما يريد الطفل وما نريد نحن – كأولياء أمور أو هيئات تعليمية أو مؤسسات عامة ذات علاقة - , إذ يجب على المجتمع أن لا يضيع الطفل بين القسوة واللين , أو بين الدلال والإهمال , بل يجب أن يؤكد المجتمع احترامه للطفولة بتقديم وسائل تعليمية مناسبة للطفل متدرجة بما يناسب سنه في كل مرحلة من مراحل طفولته تراعي نموه الجسدي والذهني مع الحرص على توفير البرامج المفيدة ضمن خطط هادفة وبيئة آمنة .
وعبد الكريم الغرايبه على سعة علمه , ورفعة رتبته الأكاديمية , إلا أنه لا يزال ذلك الرجل القروي البسيط الذي لا تبهره الأشياء على عظمتها ولا تأسره المسميات والألقاب التي يسعى كثيرون لاكتسابها لذاتها وحسب , تسود العفوية الملتصقة بفطرته تعامله مع الآخرين , ويتسرب الدفء اللين منه إلى من حوله , ومع أنه تجاوز الثمانين حولا إلا أن روحه لا تزال متوهجة تواقة للبحث عن الحقيقة التي لم يتوصل إلى خفاياها للآن حسب اعتقاده , ومع ذلك يبدو متفائلا بالمستقبل لا يقترب اليأس من نفسه , ويزيد فوق ذلك أن يوصي بالتفاؤل على الرغم من تلاحق المصائب , لأنه ربما يرى بأن القنوط يقيد التفكير ويحول دون محاولة الانفكاك من الأسر الذي يثبط الأمة فيمنعها من التقدم ويجعلها على حالها بل تزداد ترديا مع تسارع تطور باقي الأمم .
له العديد من المؤلفات في مجال علمه , منها ما تم نشره ومنها ما يحاول زملاؤه ومنهم الأستاذ الدكتور محمد عدنان البخيت إقناعه بضرورة إخراجه إلى الوجود وعدم إبقائه حبيس الأدراج , وقد خرج الدكتور عبد الكريم الغرايبه من دائرة الاختصاص في التأليف إلى ما هو أرحب , انفلاتا من القواعد والأصول العلمية والأكاديمية حيث يؤكد أن الاختصاص يقيد الفكر في الوقت الذي يحتاج فيه المرء إلى التحرر من قوانين ومحاذير الحمولة العلمية أو التبعية الأكاديمية , فقد كتب مؤلفات تصب خارج التاريخ , تذهب نحو السياسة والفكر والفلسفة والحضارة , كتبها وهو أقرب ما يكون إلى الروائي أو الشاعر اللذان يكتبان من فكرهما الخاص ومن مخيلتهما الذاتية دون التزام يقيد نصوصهما إلا من حيث أسس بناء الرواية أو نسج القصيدة , فهو يرى أن الروائيين والشعراء يكتبون عن قناعة واقتناع , وبعد جد وتعب وبحث , وبجهد يبذل بكرم تضيق عنه همم المحملين بأعباء العلوم والمثقلين بحمول الأكاديميا , فقد كتب عن الحشد والرباط , وعن أمريكا والعسل والزنبور , وعن العرب والماء .. وما زال عطاؤه متصلا ببعضه بعضا , ومتواصلا مع الحياة والناس .