عقيل أبو الشعر.. جعلت الغربة من حياته لغزاً محيراً.. هنا لنتحدث عن شخصيات أردنية كان لها أطيب الأثر في مسيرة الأردن المشرفة
لم تكن الغربة والأسفار البعيدة وحدها قدره، لكنها زادت عليه أن جعلت من حياته، وخاصة في مراحلها الأخيرة لغزاً كبيراً، وكأن عقيل أبو الشعر الأكاديمي والروائي والباحث والموسيقي، ورجل السياسية الذي أصبح وزير خارجية لدولة أجنبية في أعالي البحار، لم يكن يوماً ابن الأردن الذي شكلت بلدة الحصن القريبة من اربد، مسقط رأسه ومربى طفولته، والبيئة التي تفتحت فيها أحلامه، ونمت تطلعاته، هل لأن البعيد أخذه شاباً، وتقاسمت حياته المدن الغربية واللاتينية.
صار بعيداً عن الذاكرة، فلم تنهض جهود مؤسسية أو فردية، للبحث في حياته، وملاحقة مسيرته الحافلة بالغريب والمفاجئ المتميز، لماذا ما زالت كثير من محطات حياته لغزاً، وهو الذي حقق ما حقق في مرحلة غاية في الصعوبة، حاصلاً على الدكتوراه من روما في العقد الأول من القرن الماضي، والعرب يعانون الجهل والتهميش، وأتقن ثماني لغات حية، فتكون له الريادة في كتابة الروايات عربياً، عندما نشر أول رواية له في باريس عام 1912م، كما هو موثق في المكتبة الوطنية الفرنسية، فيفقد هذا الكتاب دون أن تبذل جهود حقيقية للبحث عن هذا الرواية الرائدة، فتكون أعماله الأخرى التي راجت في أوروبا وأمريكا اللاتينية، ومنعت من دخول أراضي السلطنة العثمانية، كالكتب السياسية والفكرية والمؤلفات الموسيقية، بحال ليست بأفضل من ملامح حياة هذا المبدع الأردني المجهول.
يؤكد البدوي الملثم وهو أول من ترجم له، وبقيت هذه الترجمة المرجع الأساسي ويكاد يكون الوحيد، عن حياة هذا المهاجر الذي طاف ذكره الآفاق، حيث يؤكد أن ولادة عقيل أبو الشعر كانت على التقريب في عام 1893م، في بلدة الحصن، وكان والده سليمان أبو الشعر يعد من أعيان المنطقة، فهم ينتسبون إلى عشيرة النمري، ويقال لهم في الحصن النمورة، حيث يذهب بعض الدارسين إلى أن هذه العشيرة قدمت من بصرى الشام واستقرت في المنطقة بما فيها بلدة الحصن، التي كانت تشهد ازدهاراً لافتاً، حتى أصبحت خلال تلك الفترة مقصد للتجار والعائلات الراغبة في الاستقرار، مستفيدة من استتباب الأمن، وخصوبة الأرض، وقد تلقى عقيل أبو الشعر تعليمه الأولى في الحصن، ولما ظهرت عليه علامات النبوغ المبكر، ونظراً لندرة المدارس في شرق الأردن، فقد أرسله والده إلى القدس وهو لم يغادر سن الطفولة بعد، فالتحق بالمدرسة الاكليركية، وكان نظام التدريس في المدرسة صارماً، ويتيح للطلاب تعلم لغات أجنبية حيث تعد اللغة الإيطالية أساسية في المدرسة، التي يشرف عليها الطليان، وخلال دراسته في المدرسة الاكليركية، حظي عقيل أبو الشعر بحب وإعجاب مدرسيه، فقد تميز بقدرة مدهشته في التعلم والتميز في دروسه، محققاً تفوقاً ملحوظاً في تعلم اللغات الأجنبية وإجادتها بسرعة، تؤكد نباهته، وتمتعه بكاء غير عادي.
أمضى عقيل أبو الشعر في المدرسة الاكليركية في القدس خمس سنوات، ونظراً لتفوقه الدراسي فقد أبتعث إلى العاصمة الإيطالية روما، من أجل إكمال دراسته، وفي روما تعرف على العالم الغربي، وأدرك ما يعانيه العرب من ظلم وإهمال تحت الحكم التركي، وقد مكنته مدينة الفن هذه من كشف مواهبه في الفنون الجميلة، فبرز كموسيقي متمكن من أدواته، فدمج في دراسته العليا بين الفلسفة والموسيقى، حتى نال شهادة الدكتوراه في الفلسفة والموسيقى، وكان أول أبناء شرق الأردن والمنطقة ربما، في الحصول على هذه الدرجة العلمية الرفيعة، في بدايات القرن الماضي، أي قبل حلول العام 1912م، وقد تفرغ للترجمة والكتابة، وتأليف المقطوعات الموسيقية، مغادراً الاكليركية وتوجهاتها، وقد راجت مؤلفاته وموسيقاه ذات الإيقاع الشرقي في أوروبا وكثير من دول العالم، وتمكن من نحت أسم غربي له، قريب من إيقاع اسمه العربي، فأطلق على نفسه اسم ( أشيل نمر ) الذي يناظر عقيل النمري وهو اسم عشيرته، فتسمية أبو الشعر حديثة نسبياً، وكان يوقع به أعماله وكتاباته وترجماته، فلقد أتقن الإيطالية والفرنسية والإسبانية والروسية والإنجليزية والتركية والألمانية، بالإضافة لتميزه في اللغة العربية، وقد مكنته هذه اللغات من أن يطل على العالم من كل زواياه، ويوصل كلمته أيضاً إلى مختلف حضارات وشعوب العالم.
غادر عقيل أبو الشعر روما متجهاً إلى فرنسا، واستقر في عاصمتها باريس، التي كانت عاصمة للفنون والإبداع، وكان منشغلاً بالهم العربي القومي، رغم بعده عن وطنه، وإقامته في الغرب، فنشط في الدفاع عن العرب، وحقهم في الحرية والاستقلال عن الدولة العثمانية المتهالكة، وأصبح معروفاً في الأوساط العربية في فرنسا، وتقدم في العمل القومي سريعاً، حتى اختير أمين سر جمعية ( العرب الفتاة ) التي أخذت على عاتقها العمل في أوروبا للمساهمة في جهود تحرر العرب، واستعادتهم لأمجادهم الغابرة، وقد تأكد هذا الحس العربي النضالي لديه، عندما وضع مؤلفاً كبيراً باللغة الفرنسية بعنوان « العرب تحت النير التركي « ونشر في ثلاثة مجلدات في باريس عام 1912م، وكان لهذا الكتاب صداه الواسع، مما اضطر حكومة الدولة العثمانية لمنع دخول الكتاب إلى البلدان التابعة لحكمها، وكتب عقيل أبو الشعر عدداً من الروايات الرومانسية التي لقيت رواجاً واسعاً، وفي معظمها تتناول صفات العرب ونبل أخلاقهم وأمجادهم الضائعة، ومن أولى أعماله الروائية روايته « الفتاة الأرمنية في قصر يلدز « وقد نشرها في باريس عام 1912م، محققاً ريادته العربية في هذا المجال وإن كتبت الرواية باللغة الفرنسية، وذكرت الدكتورة هند أبو الشعر والتي زارت باريس مؤخراً، وتقصت بعض أثره، أنها عثرت على كتاب جديد لم نسمع به لعقيل، عن الهجرة اليهودية في فلسطين، وهو مكتوب باللغة الإسبانية، وحيث يثبت الكتاب أن عقيل زار فلسطين في حدود العام 1922م، بعد خروج العثمانيين، ليتقصى واقع الهجرة وحال القضية الفلسطينية، لكنه لم يزر الأردن، وعثرت أيضاً على عبارة موجهة من صديق له دومينيكاني، يشير فيها أن عقيل صرخ في وجه الرئيس الأمريكي روزفلت في مؤتمر الصلح في فرساي، مطالبا جلاء القوات الأمريكية عن الدومينيكان.
لم يقم أشيل نمر أو عقيل أبو الشعر في فرنسا أكثر من خمس سنوات، فلقد قرر خوض مغامرة جديدة لا تقل غرابة عن تفاصيل حياته السابقة، حيث شد الرحال صوب بلاد بعيدة تقع ضمن العالم الجديد، فوصل إلى دولة « سان دومينيك « في أمريكا الجنوبية، وهناك في هذا البلد البعيد الذي حمل جنسيته، اهتم اهتماماً خاصاً بالفنون الجميلة، حيث احترف تأليف وتعليم الموسيقى، فقد تمتع بثقافة ومعرفة موسوعيتين، جعلته من القلة المتفردة التي تتميز بغير موضوع وتخصص ثقافي وعلمي، وقد جمع مع ذلك كله حبه للعمل العام، الذي جعل منه شخصية مرموقة وسط مجتمع سان دومينيك، وحظي بمحبة مختلف فئات الشعب، الأمر الذي أهله لينتخب رئيساً لبلدية العاصمة، فعمل على خدمة الناس وتطوير المدينة، موظفاً خبرته الواسعة، ومعرفته بالمدن الأوروبية العريقة كروما وباريس، وبعد تميزه في قيادة المجلس البلدي، تم تعيينه من قبل الحكومة محافظاً للعاصمة، وقد زاد هذا المنصب من مكانته في مجتمعه الجديد في سان دومينيك، وسطع اسمه في عرض البلاد وطولها، حيث تمتع بصلاحيات واسعة، أضافت له معارف جدد، وخبرات مختلفة.
بعد هذه المرحلة مكنته لغته الفرنسية الجيدة، ومعرفته الكبيرة بفرنسا، من دخول السلك الدبلوماسي، وذلك حين تم اختياره قنصلاً للدومينيكان لدى فرنسا في مدينة مرسيليا، وهكذا عاد عقيل أبو الشعر إلى فرنسا، التي تزوج فيها من فتاة فرنسية تعود بنسبها إلى طبقة النبلاء، وقد أمضى فترة في مرسيليا المدينة الساحلية التي تنسم من خلال شطآنها رائحة الوطن العربي الكبير، ولا شك أن ذكريات الطفولة والشباب الباكر في الحصن والقدس، قد داعبت مخيلته وهو يجوب شوارع مرسيليا، قبل أن تطلبه سان دومينيك، فقد بلغت سمعته الطيبة كل مكان، وكان يشكل بالنسبة لهذه الدولة خبرة كبيرة يعز نظيرها، فعاد إلى بلده الجديد ليتم تعيينه وزيراً لخارجية سان دومينيك، وقد دل توليه هذا المنصب على النجاح المدهش الذي حققه عقيل أبو الشعر خلال رحلة غربته الطويلة، فقد نال شهادة عليا في فترة مبكرة، فكتب وألف وترجم وعرّب بتميز، وكان موسيقياً فريداً، وعندما دخل العمل العام حقق مكانة رائعة في فترة وجيزة، فمن أمين جمعية العرب الفتاة، إلى رئيس بلدية عاصمة سان دومينيك، فمحافظاً لها، ومن ثم دبلوماسياً في مرسيليا، حتى أصبح وزيراً للخارجية، فكانت محطات حياة ابن الحصن، القادم من الأردن، تؤكد تميز الإنسان الأردني والعربي، عندما تتوفر الظروف المؤاتية.
بعد تولي عقيل أبو الشعر لمنصب وزير الخارجية بسنوات قليلة، انقطعت أخباره، ولم يصل إلى أهله وأقاربه في الحصن أي خبر عنه، ولا يعرف ما حدث معه بعد ذلك، وهل بقي سان دومينيك أو غادرها، وكيف عاش وفي أي بلد توفي وكيف ومتى كانت وفاته، ولم يصلنا من مؤلفاته وموسيقاه شيىء، فقد لف الغموض والمجهول المرحلة الأخيرة من حياة هذا الأردني الذي حمله تميزه إلى شواطئ مدن بعيدة، وبعد ذلك ابتلعت الغربة كل شيء فيه، حتى آخر أخباره، ويبدو أنه لم تبذل جهود حقيقية لإعادة إرث هذا المبدع الكبير إلى وطنه، واستعادة حياته الماضية من خلال جمع أعماله وترجمتها وإعادة نشرها، ليبعث أردنياً من جديد كما كان طوال حياته وغربته القاسية.
