التغير الاجتماعي
يُعَد مفهوم التغير من السمات، التي لازمت الإنسانية، منذ فجر نشأتها حتى وقتنا الحاضر؛ حتى إنه أصبح إحدى السنن المسلَّم بها، وحقيقة من حقائق المجتمع الإنساني؛ إذ لا يُغْفَل وجود مجتمع ساكن تماماً، مهما كانت درجة بدائيته أو تخلفه. ولذا، فإن الباحث المتعمق في دراسة المجتمع، يلاحظ، مثلاً، كيف تتغير القِيم من عصر إلى عصر، ومن مجتمع إلى آخر؛ بل في المجتمع الواحد نفسه. ومصداق ذلك خروج المرأة إلى ميدان العمل، والذي كان يُعَدّ، حتى عهد قريب، خروجاً عما هو مألوف؛ أمّا الآن، فأصبح أمراً طبيعياً ومألوفاً. ولم يقتصر التغير على النواحي الاجتماعية فقط، وإنما تعداها، بوضوح وسرعة، إلى أساليب الإنتاج، مثل حلول الوسائل التكنولوجية الحديثة، في معظم مجالات العمل، محل الأيدي العاملة.
بناء على ذلك، يشير مفهوم التغير الاجتماعي Social Change إلى التحولات، التي تطرأ على بناء أيّ مجتمع، خلال مدى زمني معين؛ ما يعني وجود قوى اجتماعية، تسهم في حدوث التغير، في اتجاه معين، وبدرجات متفاوتة الشدة. وهو قد يطاول بناء المجتمع بأسْره، كما هو الحال في الثورات؛ كما قد ينحصر في نظام اجتماعي معين، كالأسْرة والسياسة والدين.
ويميل علماء الاجتماع إلى التمييز بين التغير الاجتماعي والتغير الثقافي. فأولهما هو الذي يطرأ على العلاقات الاجتماعية، بينما الثاني يعتري القِيم والمعتقدات والمُثُل والرموز الشائعة في المجتمع. غير أن الواقع الفعلي، يشير إلى صعوبة الفصل بين هذَين النمطَين من التغير؛ إذ التغير الثقافي، يسببه أشخاص هم جزء من البناء الاجتماعي، كما أن للتغير الاجتماعي مكونات ثقافية بالغة الأهمية في تحديده. ومع ذلك، فإن في الإمكان عزل بعض التغيرات الثقافية، كتلك التي تنتاب مجالات اللغة والفن والفلسفة، عن السلوك الاجتماعي. وقد ساعد المناخ الفكري السائد في علم الاجتماع، على تبني علمائه مصطلح التغير الاجتماعي، للإشارة إلى كلّ صور التباين التاريخي في المجتمعات الإنسانية. وأسهم في رواج هذا المصطلح نشر كتاب "التغير الاجتماعي"، لمؤلفه ويليام أوجبرن، عام 1922، الذي أوضح فيه دور العوامل: البيولوجية والثقافية، في حدوث التغير الاجتماعي. كما طرح فرضية الهوة الثقافية Cultural Lag، إذ رأى أن التغيرات، التي تطرأ على جزء من الثقافة اللامادية، يطلق عليه اسم الثقافة التكيفية Adaptive Culture، لا تواكب تماماً تلك التي تطرأ على الثقافة المادية؛ ومن ثَم، تصبح مصدراً للضغوط والصراعات.
وقد اختلف علماء الاجتماع في مفهوم التغير. فرأى فون فيزه Von Weise أن يستخدم التغير بديلاً محايداً من فكرة التقدم، أو يستخدم استخداماً إحصائياً، يجعله تصوراً كمّياً خالصاً؛ وقصَره على التحولات، التي تلمّ بعلاقة الإنسان بالإنسان. وقال جينزبرج Ginsberg بأن التغير الاجتماعي إنما هو تغير في البناء الاجتماعي، مثل: حجم المجتمع، وتركيب القوة فيه، والتوازن بين الأجزاء أو نمط التنظيم. أمّا روس Ross، فبدا له أن التغير الاجتماعي، ما هو إلا التعديلات التي تحدث في المعاني والقِيم، التي تنشر في المجتمع، أو بين بعض جماعاته الفرعية.
إذاً، يمكن تعريف التغير بأنه كلّ تحوُّل في النظُم والأجهزة الاجتماعية، من الناحيتَين: البنائية والوظيفية، خلال فترة زمنية محددة. وهذا التعريف يوافق ما ذهب إليه دافيز Davis، أن التغير الاجتماعي هو التحول في التنظيم الاجتماعي القائم، سواء في تركيبه وبنيانه أو في وظائفه.
التغير سُنة طبيعية، تخضع لها جميع مظاهر الكون وشؤون الحياة. وقديماً، قال الفيلسوف اليوناني، هيراقليطس، إن التغير قانون الوجود، والاستقرار موت وعدم. ومثّل فكرة التغير بجريان الماء، فقال: " أنت لا تنزل النهر الواحد مرتَين؛ إذ إن مياهاً جديدة، تجري من حولك أبداً".
يتجلى التغير في كلّ مظاهر الحياة الاجتماعية؛ ما حدا ببعض المفكرين وعلماء الاجتماع على القول بأنه لا توجد مجتمعات، وإنما الموجود تفاعلات وعمليات اجتماعية، في تغير وتفاعل دائبَين. أمّا الجمود نفسه، في أيّ ناحية من نواحي الحياة الإنسانية، فأمر لا يمكن التسليم، ولا الموافقة عليه؛ إذ المجتمعات الإنسانية المختلفة، منذ فجر نشأتها، تعرضت للتغير خلال فترات تاريخها. كما لا يقتصر التغير الاجتماعي على جانب واحد من جوانب الحياة، الإنسانية والاجتماعية؛ وإذا بدأ، فمن الصعب إيقافه، نتيجة لِما بين النظُم الاجتماعية والتنظيم الاجتماعي بعامة، من ترابط وتساند وظيفي.
وفى هذا الصدد، حدد ولبرت مور Moore أهم سمات التغير، كما يلي:
أ. يَطَّرِد التغير في أيّ مجتمع أو ثقافة، ويتسم بالاستمرارية والدوام.
ب. يطاول التغير كلّ مكان، حيث تكون نتائجه بالغة الأهمية.
ج. يكون التغير مخططاً مقصوداً، أو نتيجة للآثار المترتبة على الابتكارات والمستحدثات المقصودة.
د. تزداد قنوات الاتصال في حضارة ما بغيرها من الحضارات، بازدياد إمكانية حدوث المستحدثات الجديدة.
هـ. تكون سلسلة التغيرات التكنولوجية المادية، والجوانب الاجتماعية المخططة، منتشرة على نطاق واسع، على الرغم من الجنوح السريع لبعض الطرق التقليدية.
2. أنواع التغير وعوامله
يكاد علماء الاجتماع يتفقون على ثلاثة أنواع من التغير الاجتماعي، هي:
أ. التغير الخطي المستقيم: يتخذ صورتَين: الأولى، تغير تراجعي، وهو الذي يربط أصحابه بين التغير والتأخر؛ والثانية، تغير تقدمي ارتقائي، يربط أصحابه بين التقدم والتغير.
ب. التغير الدائري: يرى أصحاب هذا الرأي، أن الإنسان يتطور نموه من الميلاد إلى الطفولة، إلى البلوغ إلى النضج والاكتمال، إلى الشيخوخة والموت؛ ثم يعود المجتمع من حيث بدأ، مرة أخرى. ويرى ابن خلدون، مثلاً، أن المجتمعات تمر بمراحل دائرية، تبدأ بالطفولة ثم مرحلة الشباب والنضج، ثم مرحلة الشيخوخة.
ج. التغير الملحوظ أو المتذبذب: و يأخذ شكل حركات ومظاهر صاعدة وهابطة.
وفي هذا الإطار، استعرض بعض علماء الاجتماع دور بعض العوامل في إحداث التغير. وكان من أهمها دور الأفراد، وتأثير كلٍّ من العوامل المادية والأفكار. وقد قدم جينزبرج تحليلاً علمياً منظماً لأهم العوامل المفسرة للتغير الاجتماعي، وهي:
أ. الرغبات والقرارات الواعية للأشخاص.
ب. أفعال الفرد المتأثرة بالظروف المتغيرة.
ج. التغيرات البنائية، والتوترات الاجتماعية.
د. المؤثرات الخارجية، كالاتصالات والغزو الثقافي.
هـ. الأفراد المتميزون أو جماعات المتميزين.
و. التقاء أو انتظام عناصر من مصادر مختلفة، عند نقطة معينة.
ز. الأحداث العنيفة.
كما أكد أوبنهايمر Oppenheimer أثر الصراع الدولي، في العصر الحديث، في التغير الاجتماعي؛ لتأثيره العميق في بناء المجتمعات: الاقتصادي والسياسي، والسياسات الاجتماعية، ومعايير السلوك. وكذلك الصراع بين الجماعات المختلفة، في داخل المجتمع، ما زال مصدراً رئيسياً للتجدد والتغير الاجتماعيَّين؛ وهو يشمل الصراعات الطبقية، التي تمثّل عاملاً مهماً من عوامل التغير، وبخاصة في العصر الحديث؛ فضلاً عن اشتماله على الصراع بين الأجيال المختلفة، أيْ الأجيال القديمة، كجيل الأجداد والآباء؛ وجيل الأبناء والأحفاد، والنقد المتبادل بينهما.
وعلى الرغم من أهمية العوامل السابقة في إحداث التغير الاجتماعي، إلا أن علماء الاجتماع، قد اختلفوا في تفسيره. فلقد عزا كارل ماركس عوامل التغير إلى الأساس المادي للمجتمع؛ لكونه المحرك الأساسي لكلّ عملية تغير، تنبثق منها تغيرات متعاقبة في بقية نواحي المجتمع. ونسب بعض الباحثين التغير في المجتمع إلى تغير نسق القِيم، مثال ذلك ماكس فيبر، الذي جعل العامل الديني سبباً للتغير الاجتماعي. وأكد البعض الآخر تضافر جماعة متباينة من العوامل على إحداثه؛ ويمثل هذا الاتجاه ويليام أوجبرن، الذي أقر العوامل: المادية واللامادية.
ذهب أندرسون إلى أن قبول التغيرات الاجتماعية رهن بثلاثة شروط أساسية، هي:
أ. الحاجة إلى التغير: الحاجة هي أمّ الاختراع، بمعنى أن يكون المجتمع في وضع، يقبل التغير، حين يكون هناك وعي بأنه لازم لتحقيق الأهداف، على نحو أكثر فاعلية.
ب. التوسع في الإشباع: ربما تقَبل التغيرات، إن كانت أقدر من العوامل القديمة على إشباع الحاجات للحضارة.
ج. النفع الثابت: قبول التغير، بسهولة، هو دليل النفع والفائدة المتزايدة
3. معوقات التغير الاجتماعي
تواجه عملية التغير الاجتماعي بعدد من العوامل المعوقة، داخل المجتمع، من أهمها:
أ. المصالح الذاتية
يُجْبَه التغير الاجتماعي بالمعارضة، كلّما تهددت مصالح الأفراد والجماعات. فلقد أكد أوجبرن مقاومة أصحاب المصالح الذاتية للتغير؛ حرصاً على امتيازاتهم، مثل: معارضة أصحاب السيارات لبناء السكك الحديدية، لخوفهم من منافستها؛ أو معارضة بعض العمال الزراعيين لدخول الآلة الزراعية، لتأثيرها في حياتهم؛ أو معارضة العمال في القطاع الصناعي لسياسة الخصخصة، لتأثيرها في طرد بعض العمال من شركات قطاع الأعمال العام.
ب. العادات والتقاليد
تمثّل بعض العادات القديمة والتقاليد المتوارثة، معوقات دون الابتكارات. ويتصلب هذا العائق حينما يكون الكبار والشيوخ هم الحل والعقد؛ إذ يكبر عليهم تغير عاداتهم.
ج. الخوف من الجديد، وتبجيل الماضي وتقديسه
الشك في الجديد وما سوف يأتي به، يُريب كلّ المجتمعات، وبخاصة تلك التقليدية والمتخلفة. وتبجيل الماضي وإجلال موالاته، هما من معوقات التغير. ولذلك، طالما قاومت المجتمعات كلّ تغير، يعتري ما ألِفته من مفاهيم راسخة كالتغيرات التي تتعلق بخروج المرأة للعمل، أو للتعليم أو السفر إلى الخارج، أو إدخال التكنولوجيا الحديثة.
د. العوامل البيئية
وهي تتعلق بالموقع والمناخ؛ فلقد قرن بعض العلماء الموقع الجغرافي بدرجة تخلّف المجتمع وتقدُّمه. ففي المناطق الاستوائية، مثلاً، يكون المناخ أحد المعوقات الأساسية للتغير؛ إذ على الرغم من الحاجة إليه والشعور بأهميته، إلا أن الإنسان في تلك المناطق، يتسم بالكسل والإهمال أكثر من الإنسان في المناطق الشمالية.
وهكذا يتضح أن مفهوم التغير مفهوم شامل، يهتم أو ينصب على الأوضاع الراهنة، أو ما هو كائن بالفعل، بمعنى أنه ينصب على الوجود الحقيقي. فالتغير يشير إلى تبدُّل في الظواهر والأشياء، من دون أن يكون لذلك التغير اتجاه محدد يميزه؛ فقد يتضمن تقدماً وارتقاء، في بعض الأحيان؛ وقد ينطوي على تخلّف ونقوص، في بعضها الآخر.
اتمنى ان افيدكم بهذا الموضوع
الموضوع منقول من الموسوعة الحرة
ويكبيديا