في الحقيقة، إن أفضل مَن يكون قاضياً على النفس هو صاحبها، لأن محكمة النفس هي المحكمة الوحيدة التي لا يمكن أن يزوِّر فيها أحد على القاضي، لأن النفس تعرف نفسها، والإنسان عالم بمعاصيه وأخطائه، (بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره) .
ومن هنا، فإن محكمة الضمير تكون بالطبع عادلة، لأن من غير المعقول أن يتهم الإنسان نفسه بأمر لم تفعله، أو يبرّأها مما فعلته، فهو عارف معرفة كاملة بخطأه وصوابه، وبالعلم يسهل الحكم والقضاء ويكون عادلاً.
وقد يسأل سائل هنا: كيف أثيب نفسي وكيف أعاقبها؟
والجواب: إن الثواب والعقاب يجب أن يكون حسب العمل الصالح، أو العمل السيئ.
فلو عزمت مثلاً على القيام بعمل إيجابي فيه الخير والصلاح، وكان يتطلب منك جهداً كبيراً ـ سواء ما يرتبط بتهذيب النفس أم بالقيام بالعبادات أو أداء عمل صالح أو المساهمة في برّه وإحسانه ـ ثم أنجزت ما عزمت عليه، فمن حقك القيام برحلة للترويح عن النفس.
أمّا إن جاءت الأفعال معاكسة، فلم تفعل الخير والصلاح بل نويت الشر، فمن واجبك أن تعاقب نفسك بأن تمنعها عن بعض ما تتوق إليه، ومن هنا كان الصوم كفارة عن بعض الذنوب.
إن إجراء المحاكمة للنفس، وإعطاء الثواب على الإحسان، والعقاب على الإساءة، يؤدي إلى ترويض النفس، لأن النفس بطبعها (أمّارة بالسوء) وهي متمردة على الضمير والعقل، ولذلك فإنها تحتاج إلى الترويض.
إن ترويض النفس ليس بالضرورة عقاب لها، بل هو تأديب وتهذيب، لأن ذلك يساعدها على إتيان الخيرات ونبذ الشرور، ومن ثم فإن من مصلحة الإنسان أن يكون قادراً على ترويض نفسه، وهو البداية الضرورية لصلاح الفرد والمجتمع، لأن النفس هي البذرة الحقيقية لكل شيء، فإن صلحت، صلحت الأعمال، وإن فسدت، فسدت الأعمال.
ولذلك فإن الميدان الأول للثواب والعقاب هي النفس، لأنها الميدان الأول للصلاح والفساد، والميدان الأول للطاعة والمعصية، والميدان الأول للنجاح والفشل.. أيضاً.
حقاً إن الرقابة على النفس تُشعرها بوجود مَن يقوّم مسيرتها، وهي وسيلة من وسائل معرفة النفس، التي هي مقدمة ضرورية لمعرفة الباري عزوجل: "فَمَن عرف نفسه عرف ربّه" وهذا يعني أن مَن جهل نفسه جهل ربّه.
فمن لم يحاسب نفسه، فإنه قد يستمر في ارتكاب الحماقات، ويتورط في الباطل ويق
وم بظلم الآخرين، فلا يكتشف قبح ما يفعل إلا بعد فوات الأوان.
ومن هنا، فإن "تزكية النفس" كانت المهمة الأولى للأنبياء، كما أنها رسالة الله للإنسان. يقول ربنا: (ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها)
ويقول أيضاً: (قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى).
ويقول رسول الله (ص) وهو يبيّن أنّ محاسبة النفس مقدمة للفوز في الآخرة: "جوّعوا بطونكم، واظمئوا أكبادكم، وأعروا أجسادكم، وطهّروا قلوبكم، عساكم أن تجاوروا الملأ الأعلى".
وهكذا فإن مَن يريد أن يكون صالحاً فإن عليه أن يراقب نفسه ويحاسبها محاسبة الشريك شريكه، فيثيبها إن أحسنت، ويعاقبها إن أساءت، وبذلك يفوز في الدنيا والآخرة.