فوزية سلامة تكتب عن مرارة اليتم في موسم الأمهات
لا اعلم كيف ولماذا تنحصر ذكرياتي عن امي في صورة ثابتة لا تتغير: صورتها وهي شابة مرحة تملأ الدنيا سرورا وتوزع محبتها بلا حساب. اراها تتضاحك مع صديقتها المقربة. اراها تصلي. اراها وقد قطبت ما بين حاجبيها لأنها تطهو الطعام بتركيز شديد. اراها تسأل ابي علي استحياء عن اخبار سياسية لم تفهمها كل الفهم. ولكنها في جميع تلك الاطوار شابة ذات شعر اسود متماوج وعينان بنيتان يطل منهما ذكاء.
ويمر في خاطري احتمال وهو اننا سوف نلتقي في حياة اخري وكل منا شابة ضحوك. وتسرني الفكرة حين تدخل علي ابنتي الشابة تحمل زهورا وهدايا بمناسبة عيد الام وتحمل في عينيها اشتياقا لا راد لمعانيه لأننا نلتقي بعد فراق دام عدة اسابيع . اسأل نفسي: هل يوازي حبها لي ما اشعره من حب نحوها يطغي علي كل حب سواه , اعقد عليه امالي وابتهل الي الله في صلاتي ان يدوم بيننا مازال النفس متصلا؟
تسالني عن رحلة سفري فاتذكر زيارة الي دار ايتام في بيروت تركت في نفسي اثرا من الصعب ان يزول. في تلك الزيارة كنت مدفوعة بالقيام بعملي الصحفي علي افضل ما يكون فسألت عن احدث طفل التحق بالدار . فهمت انها طفلة لقيطة وجدوها بجوار مقلب نفايات ولم يتجاوز عمرها اربعة وعشرين ساعة, وانها بلغت الان ستة اشهر.
فطلبت ان اراها ربما لكي احملها وتدور الكاميرا فتعاونني علي ارسال رسالة مرئية مسموعة لجماهير المشاهدين عن مرارة اليتم وبركة التبرع للايتام في موسم الاحتفال بالامهات.
مرت دقائق بطيئة الي ان دخلت الام البديلة تحمل الطفلة. ولا ابالغ ان قلت انني لم ار طفلة في مثل جمال تلك الصغيرة . وجدت امام عيني طفلة هنية تستجيب لمن يتحدث اليها بابتسامة وحين دعوتها الي حضني مالت نحوي بلا خوف او تردد. فجأة تماثلت اما عيني ام تلك الطفلة باكية محطمة لما تبقي لها من عمر , مثقلة بالاحساس بالذنب والجرم لأنها تركت ما حملت به وولدته فريسة للعراء خوفا من العقاب او من الفقر او بسبب نكران شريكها في الفعل الذي يبغضه الله والناس.
ورغم انفعالي لم اجرؤ علي ان اجهر بسؤال وهو: ماذا تقولون لهذه الطفلة حين تكبر وتسأل : اين امي؟
خرجت من الدار بقلب مثقل وتذكرت قصة سمعتها عن انثي الفهد الصياد. انثي الفهد تتميز بخطين اسودين ينحدران باستدارة من ركن العين الايمن اسفل الخدين مرورا بالفم نحو الذقن. ويعزي هذا التميز الي اسطورة مفادها ان انثي الفهد ولدت شبلا صغيرا وتعلقت به كثيرا وهي تسهر علي اطعامه ورعايته لكي يكبر . ولكن الفهد اختفي , ضاع من امه التي ما انفكت تبحث عنه بلهفة وجزع شديدين . ولم تجد له اثرا فسالت دموعها وظلت تسيل وتسيل الي ان حفرت الدموع مجري علي الخدين ترك تلك العلامة السوداء التي اصبحت كل اناث الفهد الصياد تولد بها.
كل الاساطير تعلمنا شيئا له معني قد يغيب عنا في زحمة الحياة. وقد تبلور هذا المعني لدي بأن سلوك الحيوان فطري لم تفسده قوانين كتلك التي تفسد فطرة البشر. فلا ام من فصائل الحيوان تترك طفلها في العراء خوفا و ايثارا للسلامة .
سوف تكبر تلك الطفلة وقد غابت عنها معاني تلك الاغنية الشهيرة التي كبرنا وكبرت معنا معانيها كبنات وكأمهات: ست الحبايب يا حبيبة . يا أغلي من روحي ودمي. يا حنينة وكلك طيبة . يارب خليكي يأمي.
فوزية سلامة
.
.