من هي قوى التغيير...؟؟
من هي قوى التغيير...؟؟
ملاحظة : ارجو المعذرة لانني اختصرت عنوان البحث من ( من هي القوى التي تغير المجتمعات.. وتبني الحضارات ...؟؟) الى من هي قوى التغيير..؟؟
ذكرت في الجزء الاول من هذا البحث ان مجتمعات عصر الاقطاع افرزت ثقافتها وقوانينها وذكرت بعضا منها يتعلق بوضع المرأة في مختلف حضارات عصر الاقطاع وفي مناطق مختلفة من العالم، واضيف في هذا السياق ان غطاء الرأس هو ايضا تراثا اقطاعيا ذو صلة بمكانة المرأة الوضيع في المجتمع الاقطاعي لدى كافة الشعوب والمجتمعات في عصور الاقطاع.
كما ذكرت ان الاشوريين كانوا اول من فرضوا الحجاب على المرأة وان اليونانيين البسوها النقاب، فالمرأة اليهودية ايضا كانت تغطي راسها "السيدة العذراء" نموذجا ، ليستمر ذلك في كل عهود المسيحية لاحقا حتى فرض التطور الصناعي على المرأة المسيحية في اوروبا نزع غطاء الراس بعد ان دخلت ميدان الانتاج الصناعي الكبير.
وما زالت المرأة الهندية (الهندوسية والبوذية والمسلمة ومن مختلف الديانات الاخرى في الهند) حتى اللحظة تغطي راسها رغم عدم الاهتمام الكبير بتغطية (خصرها). وكذلك الامر في كل دول شبه القارة الهندية بنغلاديش سيريلانكا باكستان.
والمرأة المسيحية والمسلمة في معظم القرى في دول اسيا الوسطى ما زالت تغطي راسها سواء كانت طاجيكية او ارمنية او اذرية او شيشانية ، وكذلك الامر في دول اوروبا الشرقيية غطاء الراس مازال حاضرا رغم 60 سنة من الحكم الشيوعي، وكانت الصورة الاخيرة لتشاوشيسكو رئيس يوغسلافيا برفقة زوجته وهي تضع منديلا على راسها، وما مازالت المرأة المصرية الفلاحة تغطي راسها مسيحية كانت او مسلمة، وكذلك الامر في قرى بلاد الشام ويسمى غطاء الراس العصبة تغطي بها المراة رأسها سواء كانت مسلمة او مسيحية. اما في افريقيا فسواء في اشد المناطق فقرا على حوافي الغابات فالمرأة المستقرة في بيوت بدائية تغطي شعرها ايضا حتى تلك التي تترك صدرها مكشوفا.
فغطاء الرأس وان اتخذ اشكالا مختلفة ما هو الا موروث شعبي يضرب جذوره في التاريخ ، واسباب استخداماته متعددة لم يكن الورع او التدين الا واحد من تلك الاشكال، وفي هذا وفي سياق الورع والتقوى يستخدمه رجال الدين ايضا ومن جميع الاديان... وبالتالي فمن غير المنطقي اعتبار غطاء الراس رمزا دينيا اسلاميا، حتى ولو ارادت الاصولية الاسلامية "التي تفتقد الى رمز ظاهر" استخدامه للدلالة على نفوذها وهيمنتها في المجتمع.
وغطاء رأس المرأة ليس الا تقليدا اقطاعيا فرضته ظروف المجتمع الاقطاعي وانتهى في الدول التي انتقلت بالكامل الى العصر الراسمالي، وسوف يختفي من كافة الدول التي تتمكن من الخلاص نهائيا من عصر الاقطاع.
ومن المؤكد ان عصر الاقطاع فرض منظومته القانونية والاخلاقية بما يتلائم وظروف نمط الانتاج السائد ومن اجل المحافظة عليه وتنمينه واتساعه ، فالمنظومات القانونية والادارية والفكرية هي ابنة زمانها، فتم تحديد المسموحات والممنوعات، وما زالت هذه المنظومة معمول بها في العديد من مناطق العالم التي لم تغادر حتى الان مواقع نمط الانتاج الاقطاعي.
وكما تشير المراجع التاريخية فان الحضارة المصرية القديمة "الفرعونية" تعتبر اقدم حضارة انسانية مكتوبة ، عاصرها في سنوات لاحقة الحضارات في بلاد ما بين المهرين السومرية ، البابلية ، الاكدية. والحضارة الكنعانية في بلاد الشام، والحضارات في الصين والهند وبلاد فارس واليونان، ولو مررنا سريعا على المنظومة القانونية والاخلاقية في مختلف الحضارات فسوف نجدها متشابهة جدا الى حد التطابق.
صلاحيات السلطة
واول القواعد الاخلاقية والقانونية التي اوجدها المجتمع البشري عشية انتقاله من العصر الرعوي شبه المشاعي البدائي الى عصر الاقطاع، هي تحديد صلاحيات السلطة في المجتمع الزراعي الجديد، ففي مختلف الحضارات كان هناك رأس السلطة "الملك" الذي منح نفسه صفة الحاكم المطلق والقائد الروحي وأنه صلة الوصل بين الرعية والآلهة، وهو القائد الاعلى للجيش، وللملك جهاز اداري يشرف عليه معاونه ويسمى الوزير، فيما الكهان يتبعون الملك مباشرة باعتبارهم عنصر الاستقرار السياسي والاجتماعي الرئيسي. كما كان الملك ، وكان الحكم وراثيا بين الأبناء الذكور.
ومن نافل القول التاكيد على حدوث تغييرات عميقة في شكل النظام السياسي الاقطاعي خلال الاف السنين لكنه ظل محافظا على جوهره، في الكثير جدا من الدول (دول العالم الثالث) حتى تلك التي غيرت اسم الحاكم من ملك الى امير او رئيس جمهورية. فما زالت الدول ذات نمط الانتاج الاقطاعي يحكمها حاكم مطلق السلطة، ويستعين بجهاز اداري وعسكري يخضع لارادته تماما، ويستند الى قوى دينية تعينه وتساعده على تطويع الرعية.
وقد قامت السلطة المطلقة على مر تاريخ عصر الاقطاع وفي سياق تثبيت وتعزيز سلطاتها المطلقة بتوحيد الاديان، أي مركزية الدين، كشرط ضروري لتمركز السلطة، واخضاع البلاد للحاكم المطلق، وقبل ان تتشكل الدول المركزية كان مر على البشرية الاف الديانات ، لكن الفرعون المصري "اخناتون" قام بخطوة تاريخية في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، غيرت مجرى التاريخ عندما الغى جميع الديانات في مصر، ووحدها تحت اله الشمس "آتون" واعتبره الها واحدا لا شريك له.
ومن المؤكد وكما تثبت الدراسات التاريخية ان ديانة التوحيد الأخناتونية كانت خطوة ثورية موجهة بالشان الاجتماعي وليس بشؤون الله، وعلى هديها جاءت الديانات السماوية الثلاث (اليهودية والمسيحية والاسلام).
وبالتالي تضمنت هذه الديانات جوهر الفكرة التوحيدية الاخناتونية للاله، التي تضمنتها الوصايا العشر لاخناتون، والتي كشفت عنها الحفريات في تل العمارنة، وهي ذاتها التي ادعى موسى ان الله كلمه على جبل الطور واعطاها له، وهي ذات الوصايا التي ادعى عيسى ايضا انها من عند الله، ولا تختلف وصايا محمد عن الوصايا العشر الا بقدر ما احتاجت لتعديل كي تتناسب مع مجتمع تجاري – رعوي، لم تكتمل فيه معالم عصر الاقطاع أي العصر الزراعي.
وقد شكلت الاديان بما فيها الوثنية التي وضعت الهها في السماء ايضا وانه يجلس على العرش العظيم في عصر الاقطاع ، كما في الديانة الهندوسية، والصابئية، والبوذية، والزرادشتية، والمانوية، المصدر الاساسي للقوانين التي تنظم العلاقات الاجتماعية.
وانطلقت من ان الله (الخاص) في الديانات الوثنية، والعالمي الواحد الاحد في الاديان السماوية هو المصدر الاوحد للقانون والاخلاق وبالتالي فان الانسان ملزم بالخضوع لقانون الله وتعاليمه، وبما ان الحاكم المطلق هو ممثل الله على الارض فان ارادته لا ترد ولا تقبل النقاش.
هذه هي المعادلة الاساسية لوظيفة الاديان في المجتمع الاقطاعي ويمكن تلخيصها بانها الوسيلة التي بواستطها يتمكن الحاكم من السمو فوق الرعية، ويتمكن من اخضاعها لارادته ومشيئته.
ولذلك احتاجت الثورات التي قامت بمصر والشام وجزيرة العرب الى الدين ومدعو النبوة وانهم رسل من عند الله يحملون تعاليم السماء الى الارض.
ولم يقتصر الامر على مدعي النبوة في الديانات السماوية، بل نفس الامر حدث في البلدان التي اقامت حضارات مركزية في الشرق مثل حضارات بلاد ما بين النهرين، وبلاد فارس، والصين، والهند. وكلها ادعى الثائرون فيها النبوة واتصالهم بالسماء وتلقيهم تعاليمهم منها.
مواصفات الاله
ولطالما ان جميع هذه الحضارات قامت على نمط الانتاج الاقطاعي اذن لا بد وان نظامها السلطوي متشابها بل متطابقا في الكثير جدا من النواحي، فعلى سبيل المثال لو نظرنا الى مواصفات الاله لوجدناها متطابقة وكانها منسوخة نسخا عن ترانيم اخناتون والتي جاء في بعضها .
أن الإله واحد لا شريك له .خلق الاله الكون وحده .. ولم يكن بجانبه أحد ...خلق ولم يُخلق ..
هو الأب وهو الأم وليس له ولد.
وجاء في اخرى
ان الله واحد غير مرتبط بزمان او مكان فهو الذي أرسى الزمان وخلق المكان.
وفي ترنيمة ثالثة جاء
اله واحد ...عرشه في السماء وظله على الارض فوق المحسوسات و محيط بكل شىء
موجود بلا ولادة ...أبدي بلا موت.
ويقول الاله خلقت كل شىء وحدي ولم يكن بجواري أحد . بكلمتي خلقت ما أريد ... خلقت الارض وما تحتها و السموات وما فوقها و المحيطات و ما في اعماقها، والجبال وما في بطونها ان من يمسه نور الاله يخرج من الظلمات الى النور.
ينفخ الروح في الارحام فيحييكم لتسعوا في الارض حياة التجربة، ثم يميتكم لتعودوا الى الارض التي خرجتم منها ثم يحييكم لتخرجوا من القبور، لتقفوا أمام الميزان ليزن أعمالكم وقلبكم شهيد عليكم، فاما الخلود في طبقات الجنة أو الفناء في دركات النعيم .
ويترنم اخناتون ويقول:
خلق الاله كل ما يرى وما لا يرى . يرى كل ما خلق ولا يراه احد من خلقه، انت الاول فليس قبلك شىء وانت الاخر فليس بعدك شىء ...وانت الظاهر فليس فوقك شىء ...وانت الباطن فليس دونك شىء.
وتوضح هذه النماذج من الترانيم مجموعة من الصفات للاله الذي يجلس في السماء وهذه الصفات ذاتها تضمنتها الديانات السماوية الثلاث بل وتشاركها العديد من الديانات الوثنية، ومن ابرز هذه الصفات هي :
اله واحد احد لا شريك له يجلس في السماء
هذا الاله هو الذي خلق كل شيء في الكون
لم يلد ولم يولد (أي ليس له اب او ولد)
هو اله ازلي لا يرتبط بزمان او مكان ولا يموت
يَرى ولا يُرى
بكلمة خلق الكون (قل كن فيكون).
يخلق البشر (يخلق الروح في الارحام)
يميت البشر.
يخرج البشر من قبورهم يوم القيامة كي يحاسبهم على اعمالهم
يضع الناس بعضهم في الجنة وبعضهم بالنار.
اليست هذه هي صفات الله في كل الديانات ..؟؟ وبهذه الصفات كلية الجبروت هل كان للناس خيار سوى ان تخضع ليس لله فقط ..! بل ولمن يمثل الله على الارض وهو الحاكم المطلق.
تحريم المعرفة
ولكن الحاكم المطلق لا يكفيه لتنظيم المجتمع ان يقنع الناس بوجود الاله وانه ممثله على الارض بل يحتاج الى منظومة قانونية واخلاقية لتنظيم العلاقات الاجتماعية ووضع قواعد لحل المشاكل التي تعترض حياته، فكانت الوصايا العشر التي وضعها اخناتون وكتبها على الواح حجرية وجدت بتل العمارنة، هي ذاتها التي ادعى موسى كما سبق واشرنا بانه تلقاها من الله، وهناك مئات الادلة التاريخية بما فيها دلالات وردت بكتب مدعو النبوة تؤكد ان اخناتون هو مصدر الوصايا منها النشيد الذي وضعه اخناتون للاله الجديد، وهو ذات نشيد الملك داوود في المزمور 104، وهكذا فعل عيسى ومحمد اللذان اكدت ديانتيهما على نفس الوصايا والتعاليم الاخناتونية، واذا كان محمد قد اكد على ان مصدر الديانات واحد هو الله وانه جاء ليكمل تلك الاديان فان الله في هذه الحالة يكون اخناتون فكم هو عظيم ذاك الاخناتون الذي غير معتقدات البشر وما كان له ليستطيع ذلك الا في سياق توحيد الدولة المصرية ومركزتها، ليستطيع مركزة ذاته كملك اوحد للأمة كلها التي تعيش على ارض مصر وتلك التي يمكن اخضاعها عبر الفتوحات والتوسع العسكري.
واذا اخذنا وصايا حمورابي في بلاد ما بين النهرين المعروفة ب "شريعة حمورابي" والتي تضمنت مجموعة من القوانين والسنن لتنظيم حياة المجتمع الزراعي فحرمت السرقة او الاعتداء على ممتلكات الغير، وحقوق المرأة والطفل والعبيد، و القتل والموت والاصابات، كمعيار للتعرف على طبيعة الانتاج في دول تلك العصور، فانها تكاد تتطابق مع وصايا اخناتون في جانب تنظيم العلاقة بين افراد المجتمع وتضمنت ايضا النهي عن السرقة والقتل، والزنى، وشهادة الزور، كما تضمنت عقوبات رادعة لكل من يتجاوز القانون مع التاكيد على العبودية لله ومن ثم العبودية للحاكم.
كما ان ديانات عصر الاقطاع حرمت المعرفة وحصرتها بالحاكم او من يعينه من الكهان ورجال الدين، وغيبت عقل العامة من اجل تحقيق الطاعة العمياء لصاحب السلطة المطلقة في السماء وفي الارض، واعتبرت الديانات السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية والاسلام ان الاقتراب من المعرفة يغضب الله وممثليه على الارض، فالعهد القديم اعتبر ان الخطيئة الاولى التي ارتكبها البشر هي قيام حواء باغراء آدم بأكل تفاحة المعرفة، بل ان قصة الخلق في جميع الديانات السماوية تقول بان الله سمح لآدم وحواء الأكل من كل الطيبات في الجنة المزعومة باستثناء شجرة المعرفة.
تطابق المنظومة الفكرية
ونجد هذه الثقافة (القانونية والاخلاقية) في معظم الديانات سماوية او ارضية، ما يؤكد على تشابه انماط الانتاج ، وهو ما تؤكد عليه مختلف المراجع التاريخية ومعظم الدراسات الاقتصادية والانثربيولوجية والمكتشفات الاثرية.
فالديانة الهندوسية في الحضارة الهندية مثلا وهي التي عاصرت حضارات مصر والشام وما بين النهرين، تضمنت وصاياها الاحترام الشديد من قبل صغار السن لمن هم اكبر منه سنا، وتعظيم مكانة الابوين، وان يسعى الى النعيم في الاخرة، وبذلك عليه ان يتحمل الاذى بالدنيا، وان يتحلى الانسان بالتسامح والا يرد الاساءة بمثلها، كما تحرم الهندوسية القمار، وكل اشكال الرهانات، وتعتبر المال المكتسب منهما كسبا غير مشروع، كما حرمت السرقة والكذب والنفاق والتدليس، والتنجيم، وتحرم الرشوة والمكر والخبث، والمومسة والزنا والغش، والخمر وتعتبره نجسا.
اما ديانة الصابئة والتي نشأت بالعراق حوالي (2500 سنة قبل الميلاد) وما زال لها اتباع في العراق حتى الان، فان وصاياها اكدت على وحدانية الله وحرمت الكفر به كما حرمت عدم تقديم فروض الطاعة له "الفروض الدينية"، كما حرمت قتل النفس، الزنا، السرقة ، الكذب، شهادة الزور، خيانة الأمانة والعهد، الحسد، النميمة، الغيبة، التحدث والإخبار بالصدقات المُعطاة، اداء اليمين كذبا (القسم الباطل) ، عبادة الشهوات ، الشعوذة والسحر،الختان ، شرب الخمر ، الربا ، البكاء على الميت ولبس السواد ، تلويث الطبيعة والأنهار ، أكل الميت والدم والحامل والجارح والكاسر من الحيوانات والذي هاجمه حيوان مفترس ، الطلاق (إلا في ظروف خاصة جدا) ، الانتحار وإنهاء الحياة والإجهاض ، تعذيب النفس وإيذاء الجسد ، الرهبنة ، زواج غير الصابئة.
(هذه اخلاق الصابئة ومحرماتها ، فلندقق فيها لنكتشف مدى تطابقها مع المنظومة الفكرية للاسلام ..! )
فمنظومة الاخلاق الاسلامية كما وردت في سورة الانعام { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ( الأنعام :151 - 153 ) .
وفي اية اخرى { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللجّغهِ بِهِ } ( الأنعام : 145 ) .
وكما وردت في القران والسنة النبوية فالمنظومة الاسلامية اشتلمت على (تحريم قتل النفس، الزنا، السرقة ، الكذب، شهادة الزور، خيانة الأمانة والعهد، الحسد، النميمة، الغيبة، القسم الباطل ، عبادة الشهوات ، الشعوذة والسحر، شرب الخمر ، الربا ، القمار، زيارة المقابر، أكل لحم الميت والدم والحامل والجارح والكاسر من الحيوانات ، الانتحار، الإجهاض ، تعذيب النفس وإيذاء الجسد ، الرهبنة) .
وكما الصابئة والهندوسية دعت منظومة الاخلاق الاسلامية الى العدل وبر الوالدين واحترام الكبير، والصدق والامانة والاخلاص ومساعدة الفقير، واليتيم واحترام الجار الى اخر التعاليم التي لم تخلو منها أي ديانة اخرى سماوية او وثنية.
وبالعودة الى ما قبل الاسلام نجد ان الديانة اليهودية كما تشير المراجع التاريخية هي نفسها ديانة اخناتون فالى جانب التاكيد على وحدانية الله وان كل الديانات الاخرى باطلة ، فقد حرمت السرقة والزنا والقتل وشهادة الزور (ضد الاقرباء فقط) الشهوة (اذا وجهت للاقرباء فقط)، كما حرمت كل ما ورد في الصابئة مثلها مثل الاسلام، ودعت الى ذات الفضائل التي وردت في المنظومة الاخناتونية والصابئية واتخذت من شريعة حمورابي اساسا لقانون العقوبات مع بعض التعديل (القاتل يقتل والسارق يدفع تعويضا والزانية تقتل الى اخره، وهي عقوبات تتطابق الى حد كبير مع العقوبات التي وضعها الدين الاسلامي
وجاءت الوصايا المسيحية (خروج:20، 1/17)، نسخة متطابقة مع الوصايا اليهودية مع بعض التعديلات كي تتلائم مع ثورة تحررية ضد التحالف بين الكهنة اليهود والدولة الرومانية.
كذلك جاءت الوصايا البوذية لتحرم نفس المحرمات وتدعو الى ذات الاخلاق فتضمنت عشر وصايا جوهرية كما جاء في دائرة معارف البستاني : لا تقتل، لا تسرق، كن عفيفاً، لا تكذب، لا تشرب الخمر، لا تأكل بعد الظهر، لا تغنِ ولا ترقص، وتجنّب ملابس الزينة، لا تستعمل فراشاً كبيراً، لا تقبل معادن كريمة، وهناك وصايا تتعلّق بما يجب أن يقدّم من الاحترام لبوذا والشريعة وهي السيرة الجيّدة، والصحة الجيّدة، والعلم القليل. (دققوا النظر جيدا بوصية العلم القليل أي البعد عن المعرفة). ودعت االبوذية الى ذات الفضائل في الديانات الاخرى.
وفي ذات السياق كانت المنظومة القانونية والاخلاقية للديانة الزرادشتية والمجوسية والمانوية. ولم تختلف الا من حيث الشكل (زيادة الاهتمام بهذا الجانب او ذاك) لكن الجوهر ظل كما هو يقوم على منظومة الخير والشر بما يتلائم وطبيعة نمط الانتاج الاقطاعي.
تعظيم الزراعة
ومن التعاليم المميزة والتي تؤكد على طبيعة نمط الانتاج الاقطاعي اعتبار زرادشت أن العمل الزراعي هو العامل الأول لنهضة الأمة، لأنها توفر للأمة قوتها وتقيها في سنين الجفاف شر القحط، والقحط باعث على إثارة شهوات الغزو في النفس وباعث على الحروب، ودعا زرادشت أتباعه إلى النهوض بالزراعة بقوله: إنّ زرادشت سأله ربه عن خير الطرق لإعلاء كلمة دين مزدا، فأجابه: "إنها زراعة القمح، فمن زرع القمح يزرع الاستقامة ويعين دين مزدا"، لأنه "حين تبذر حبوب القمح تذعر الشياطين.. وحين تنبت تضطرب وتمرض.. وحين ترى سيقانها تبكي.. وحين ترى سنابلها تدير ظهرها".
هذه القواعد التي نتحدث عنها والتي وضعت لاول مرة قبل نحو 3000 سنة هل انتهت واندثرت، ام انها ما زالت مزدهرة وتلعب دورا مركزيا في حياة الكثير من الشعوب ..؟؟
التاريخ يقول ان هذه المنظومة حافظت على بقائها طالما وجد نمط الانتاج الاقطاعي والنظام الريعي في كل انحاء العالم، ولم تتمكن اوروبا من التخلي عن المنظومة المستمدة من الشريعة السماوية الا بعد ان تمكنت من الانتقال من نمط الانتاج الاقطاعي الى نمط الانتاج الراسمالي، ولذلك فان هذه المنظومة ما زالت تلقى قبولا كبيرا في المجتمعات التي ما زالت ترزح تحت كاهل نمط الانتاج الاقطاعي والريعي كما في بلاد العرب.
وبالرغم مما احدثه النظام الريعي والنظام الكمبرادوري (وكالات المنتجات الاجنبية) من تغيير طفيف في المنظومة القانونية والاخلاقية حيث اصبحت الشريعة هي احد مصادر التشريع في الدساتير العربية وبعض الدول الاسلامية، الا ان القوى التي يفرزها نمط الانتاج الاقطاعي ترفض هذا التغيير وتنشط في كل اتجاه وتبذل اقصى مساعيها بما فيها القتل والارهاب للعودة الى اعتبار الشريعة السماوية هي مصدر التشريع.
ولذلك ومهما بذل دعاة العقل من جهد فانهم لن يتمكنوا من تغيير المنظومة القانونية والاخلاقية للمجتمع الاسلامي طالما ظل يرزح تحت وطأة نظام اقتصادي سمته الرئيسية ما زالت تندرج تحت نمط الانتاج الاقطاعي.
الخلاصة :
ان الدين، أي دين، باعتباره منظومة قانونية واخلاقية لتنظيم العلاقة بين الانسان والاله، وبين الانسان والانسان لا بد له وان يكون نتاجا للواقع المادي في الزمان والمكان، وكما شهدت البشرية الاف الاديان وكلها اندثرت مع الانتقال الى الاستقرار والزراعة والحاجة الى الدولة المركزية، فان ما تبقى منها قد يندثر يوما مع الارتقاء والتطور في انماط الانتاج وربما تاتي ديانات جديدة تتناسب مع تلك التطورات، لكن في المدى المنظور(تاريخيا) فان الوقائع المادية والتجربة التاريخية تقول ان أي مجتمع يتمكن من تطوير نمط انتاجه ويخرج من النمط الاقطاعي الى النمط الراسمالي لا بد وان يضع المنظومة الدينية في بيوت العبادة ويستعيض عنها بقوانين وضعية تتناسب والتطور في نمط الانتاج وما يفرضه من علاقات انتاج (أي علاقات اجتماعية).
هل اكون بما تقدم قد اجبت عن السؤال الذي يحمله عنوان هذا البحث وهو (من هي القوى التي تغير المجتمعات.. وتبني الحضارات ...؟؟)
من المؤكد انني لم اجب عن السؤال حتى الان، وما زلت في اطار وضع المقدمات، وفي المقال القادم سوف ابين انه كما ان نمط الانتاج يفرز منظومته القانونية والاخلاقية، فانه يفرز ايضا علمائه، ومفكريه ومخترعيه، وليس العلماء والمفكرين والمخترعين هم الذين يفرزوا ويصنعوا المجتمع، وبالتالي فان البشر الذين يقومون بتغيير نمط الانتاج هم الذين يغيروا المجتمعات ويبنون الحضارات ... فمن هم اولئك البشر..؟؟