يقول تعالى في محكم تنزيله: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا﴾ [الإسراء:34]، ويقول جل من قائل: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [النحل:91].
إنه عهد الله وإن قطعته مع عبد من عباده، وسوف يسألك عنه. إنه دين وميثاق وثقت نفسك به ولا فكاك لك منه إلا أن توفي به؛ فإن وفّيت كنت صادقا في وعدك وفيا، وإن أخلفت كانت فيك خصلة من خصال النفاق، قال عليه الصلاة والسلام: «آية المنافق ثلاث: إن حدّث كذب وإن وعد أخلف وإن اؤتمن خان».
إننا نتهاون في هذا الأمر وليس بالهيّن! فما الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمكث ثلاثة أيام ينتظر من قطع معه وعدا بالملاقاة ولم يأته. فلم جاءه قال: «أبطأت علينا». ولعل الرجل لم ينس هذا الدرس أبدا في حياته، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قصد أن يعلّمه ويعلّمنا خطورة هذا الأمر وعظمته عند الله، وإن كان قد فعل ذلك وفاء منه عليه أفضل الصلاة والسلام!
وفي المثل: «وعد الحر دَين عليه»، فهل دنُؤت نفوسنا إلى درجة أننا لم يعد يسيئنا ألا نكون أوفياء لوعودنا، أم أن نيتنا الوفاء حالة قطع الوعد إلا أن عملنا يقصر عن أن يبلغ مستوى تلك النية الصادقة فينا؟
إن إخلاف الوعد قد انتشر فينا بكل أشكاله وسلبياته وأصبح من اليسير علينا أن نسكّن غضب من أخلفناه الوعد بمماطلة أو تسويف أو عذر صادق أو كاذب!
وقد انتشر في سوق العمل ما يسمى بالوعود الكاذبة وانغرز أثره في نفوس الشباب المتخرج من الجامعات أو من مراكز التكوين المهني، فأثمر خيبة أمل كبيرة وزعزع ثقته بمن حوله. ومثله ما يقع من الوعود الكاذبة بالزواج فينشئ عواطف سلبية في نفوس الشابات.
إننا نقدم على شيء قبيح وخلق بغيض عند الله تعالى، وعند رسوله وهو الصادق الأمين، ولا نشعر بذلك من فرط سوء أحوالنا الأخلاقية، والبلادة التي أصابت نفوسنا.
يقول جل من قائل:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف:2-3]. ـ وانظر إلى التكرار في هذه الآية ينبهنا به جل وعلا إلى خطورة هذا الأمر ـ فهل أصبحنا لا نكترث ألا نكون مرضيّين عند الله؟!
إن الصديق أو الشريك إذا قطع عهدا مع صاحبه أو أخذ منه موعدا ولم ينجزه إياه ولم يأته في الموعد المحدد، أمضى فترة انتظاره قلقا متوترا ثم تبدأ الثقة تتزعزع بيه وبينه، فإذا تكرر الأمر مرارا وبطلت كل الأعذار تقطعت عرى الصداقة أو الشركة التي بينهما بسبب عدم التزام أحدهما وعدم أمانته. فإن كان كلاهما كذلك فهما حينئذ في هذا الخلق سيّان؛ وحقيق ألا تثبت لهما صداقة ولا تنجح لهما صفقة أو تجارة!
ناهيك عما يفعله مثل هذا السلوك على نطاق أوسع عندما يتسبب في اضطراب أعمال كثيرة وتأخر أخرى من جراء تسيّب البعض وتهاونهم واستخفافهم بالوعود والآجال.
إنه من الجدية في الحياة والفعالية في العمل أن يحترم المرء مواعيد عمله، وأن يحترم المتعلم مواعيد درسه. فهذا الالتزام وهذه المواظبة هما سر النجاح في الحياة، واسأل عنهما خبيرا ممن برزوا في دنيا الناس بنجاحات كثيرة وإنجازات سعدوا بها، حيث تجاوزهم نفعها إلى الآخرين.
ولن نغاليَ إذا قلنا أن سبب تأخر أمتنا على جميع المستويات هو عدم احترامنا للمواعيد، فقوة المجتمع في تماسك عرى الصلة بين أفراده؛ ولا تماسك بدون ثقة واحترام كل للآخر. وما لم نلتزم بهذه المبادئ فلن ننجح أبدا ولن نتقدم قيد أنمُلة. وإن المجتمعات التي حققت تقدما كبيرا في مجال العلم والإنتاج إنما كان ذلك من احترامها للوقت؛ كل لوقته وكل لوقت غيره، في التزام وانضباط كبيرين.
إن خلف الوعد صفة بغيضة في نفوس العباد من ذوي الفطر السليمة، وإن كثر المتصفون بها في أمتنا الإسلامية! ولن تستقيم لنا حياة ولن يصطلح لنا حال ما دمنا هكذا لا نعرف للوقت قيمة، ولا نعترف للآخر بحقه في الاحترام بأن نوفيه ما قطعناه معه من الوعود وما أبرمناه من العهود والمواثيق، ولا نعرّف نفوسنا بواجبها من احترام لذاتها ومحافظة على شرفها ومروءتها.
ولا شرف ولا مروءة ـ اعذروني ـ لمن لا يأبه بإخلافه للمواعيد ونقضه للعهود، ولا يرى رؤية الله له. يقول جل وعلا: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ [البقرة:40]. حقا إن هذه الآية الكريمة تخص الأمانة الكبرى التي كلف الله الإنسان بحملها وأخذ منه عهدا على ذلك في عالم الذر، لكن هذه الأمانة وهذا العهد يشمل كل ما أمر به المولى عز وجل وبعث أنبياءه ليعلموه للناس ويذكروهم به.
ثمة من الرجال من لا يخشون أن يعاهدوا الله تعالى على أمر، لأنهم – لعظمة في نفوسهم- يعلمون يقينا أنهم سيصدقون في عهدهم له، والله تعالى يذكرهم في القرآن الكريم مادحا هذه الصفة الجليلة فيهم: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا﴾ [الأحزاب:23]؛ صدق ووفاء وثبات!
وفي المقابل نجد من ينقضون العهد مع القريب والبعيد لا يضرهم أن يخسروا الصديق والشريك: يخسروا ثقته ووده واحترامه؛ مثلهم في ذلك كمثل المرأة التي نقضت غزلها بعد إحكام لا ترى قبح عملها وسفهه، كما يصفها القرآن الكريم: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ﴾ [النحل:92].
فلنتق الله ربنا ولنصلح من نفوسنا ولنقوّم هذا الإعوجاج في سلوكنا حتى ندخل في زمرة من قال الله تعالى فيهم: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ [البقرة:177]. ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ [المؤمنون:8]. أولئك هم عباد الرحمن الذين يرحمهم لرحمتهم للخلق!
فلنتراحم بالاحترام والوفاء والأمانة وصدق النية والعمل. ولا ننسى أن لنا معه سبحانه موعدا لن يخلفه وهو الحق ووعده حق، وستوفى لنا أعمالنا ما أنجزنا منها وما لم ننجز وما صدقنا فيه وما لم نصدق.